المعلوم بالضرورة أن السودان كان قبل الحرب في ركاب الدولة المتخلفة جداً… واسم الدلع الدول الأقل نمواُ… ومنذ استقلاله كان كل عام يرذل.. اللهم إلا سنوات إبراهيم عبود طيب الله ذكراه… فعبود لم يقدم الكثير بالنظر لما أتيح له من فرص سياسية واقتصادية… فمن ناحية سياسية كانت الحرب الباردة على أشدها مما أتاح هامشاً لدول العالم الثالث المتطلعة أن تتقدم … الصين وكوريا نموزجاً… عبود عندما غادر الحكم ترك في الخزينة ستين مليون جنيه إسترليني (بنات حفرة)… فلو استثمرها لأصبح السودان جنة من جنان الله في الأرض (تعال شوف اليوم الخزينة داون كم)… أعظم ما فعله عبود أنه حافظ على ضبط الدولة الذي تركه الانجليز لا فساد ولا إفساد… ووضع خطة عشرية نفذ فيها مشروعات اقتصادية كانت تعتبر عادية وفقاً لما خطط له… ولكننا نعتبرها اليوم عظيمة مقارنة بمن جاء بعده…. النخب السياسية (الله لا كسبها ولا غزا فيها بركة) استعجلت الوصول للحكم فحدث ما حدث في أكتوبر 1964..
ومن يومها أصبح التراجع بمتوالية هندسية وفي أحسن الفروض بمتوالية عددية… إلى أن وصلنا مرحلة يمكن القول معها أن الحرب التي اندلعت في 15 أبريل 2023 ومستمرة حتى اليوم… كانت بمثابة رصاصة الرحمة على الأقل على الأوضاع الاقتصادية والتنموية… بيد أن هذة الحرب اللعينة تجاوزت الخراب الاقتصادي وأحرقت نيرانها فشفاش وإمعاء وقلب المواطن..
الآن إن شاء الله الحرب انحسرت رقعتها… وعاد الناس على الأقل مَن هم خارج العاصمة عادوا إلى مضاربهم … فبالتالي لابد من عمل اقتصادي سريع… لضمان بقاء هؤلاء الناس.. وإعادة مَن لم يعُد.. إلا سنكون قد قنعنا من هذا الوطن وتركناه ليذهب مع الريح… فإذا لم تبدأ المشاريع الاقتصادية سمها إن شاء الله المشاريع الإعاشية فهذا يعني أن مخطط إفراغ البلاد مستمر وبوسائل غير البندقية…
ضربة بداية لهذا العمل الاقتصادي يمكن أن تسميه الآن البقاء على قيد الحياة (Keep life) .. وبعد نهاية الحرب يمكن أن نسميه إعادة الإعمار (دا لو أكان في شي عامر) وإذا أردت البحبحة اللغوية أسميه البناء من جديد…
مهما يكن من أمر لابد من الشروع الآن… رغم استمرار حالة الحرب ورغم الشح ورغم ضيق ذات اليد.. فالبداية في المشاريع التنموية ليست ترفاً أو اختياراً إنما أمراً حتمياً.. ليمكث الناس في مضاربهم وليعود الذين مازالوا خارجها… وليبدأ التعافي، والأهم لكي تنتهي الحرب… فالبوار يغري باستمرارها وعودتها لما غادرته..
وهنا يبرز السؤال من أين نأتي بالمال لإقامة المشاريع المطلوبة… والبلاد حالها يغني عن سؤالها… فهي (تجدع الكلب بارك من الفقر)..؟ الدول التي شهدت الحروب قبلنا ونهضت من رماد الحرب ما تديك الدرب.. والتجارب البشرية المتراكمة على قفا من يشيل… استحضروا نهضة أوروبا من الحربين العالميتين الأولى والثانية… واليابان… وأفغانستان و رواندا حتى إثيوبيا القريبة دي يمكن أن تدخل معانا هنا… هناك من نهضت بالمنح وبعضها بالاستثمارات وبعضها بالقروض والمعونات المشروطة وبعضها بمواردها الذاتية….. في تقديري أن خيارات السودان ليست كثيرة… فالمنح قد جربها السودان وكانت معظمها إن لم نقل كلها وعود سراب.. (عزومة مراكبية)… الاستثمارات رغم عظم الموارد وجاذبيتها إلا أن الحصار الدولي الذي كان مفروضاً قبل الحرب سوف يحد منها… المدخرات المحلية موجودة لكن كيف تطلع؟ فالمعلوم أن الرأسمالية الوطنية جبانة واتكالية.. المجتمعات المحلية يمكن أن تنهض بما يقيم الأود إذا التفتنا لها… رغم ذلك لاسبيل للسودان إلا أن يجرب كل هذة الخيارات ويعلن عن فتح بابه لها وليس أمام الحكومة الآن إلا أن تجهز نفسها وتعلن بأنها سوف تطرق جميع الأبواب…
يبقى السؤال كيف تجهز الحكومة نفسها … عليها أن تبدأ بمكافحة الفساد و الفساد هذا يحتاج لوقفة أطول شوية… فهو أصلا موجود منذ استقلال السودان وظل في حالة تنامي إلى يوم الناس… ولا شك أنه استغل الفراغ السياسي ثم حالة الحرب.. ولا شك أنه وجد مناخاً طيباً في الحرب لينمو ويترعرع ويصبح وحشا كاسراً…. وأجزم بأنه قد شحذ سكاكينه لفترة ما بعد الحرب… ليتحكم في الأموال المتوقع قدومها… ولن يدفق مويته على الرهاب… وأنا ما بفسر وإنت ما تقصر … على الحكومة إذا أرادت أن تجذب أي أموال للمرحلة القادمة وبأي من السبل المذكورة أعلاه… أن تظهر جديتها في مكافحة الفساد بسن القوانين الرادعة وإعلاء قيم الشفافية.. ويجب أن تشرك المجتمع في ذلك.. عليها أن تقوم بخطوات جادة لشكم الفساد أو على الأقل تقليل معدلات تناميه… أو توجيه موارده للإنتاج… فالذين اكتنزوا مال السحت يمكن أن يوجهوه إلى ما ينفع الناس… ليكون حراماً عليهم حلالاً على الآخرين… فالمال لا يحرم مرتين… ورأسمالية الدنيا كلها قامت علي موت وفقر وجوع الآخرين… وقديماً قال أستاذنا الراحل المقيم البروفسور محمد هاشم عوض الفساد يمكن أن يكون عاملا من عوامل الإنتاج ومدخلاً من مدخلاته.. . وبهذه المناسبة سبق أن كتبت قبل ذلك وقلت إننا نحتاج لمركز دراسات ترويض الفساد طالما عجزنا عن كبحه نهائياً…
خلاصة قولنا هنا أنه على الحكومة إذا أرادت أي أموال للاعاشة الآن أو إعادة الإعمار أو البناء من جديد أن تبدأ بمحاربة الفساد وتضع القوانين الجاذبة للأموال سواء كانت منح أو قروض أو معونات مشروطة أو استثمارات أو شراكات.. أما تحريك المجتمعات المحلية وجعلها رأس الرمح فهذا هو (العليه الرك) في تقديرنا… ولكن كيف؟
عبد اللطيف البوني
