من النضال الطلابي إلى الثأر السياسي

من النضال الطلابي إلى الثأر السياسي:
كشفت الحربُ التي اندلعت في أبريل 2023 عن عمق الخلل في بنية الطبقة السياسية السودانية وأوساط المثقفين وصناع الرأي.

فقد برز جيل من السياسيين والناشطين تشكلت رؤاهم بشكل نهائي وصارم خلال أيام النضال الطلابي ضد نظام الإخوان المسلمين. يحمل هذا الجيل، في وعيه ولاوعيه، رغبة عارمة في الثأر من الإخوان، سواء على خلفية التنافس السياسي الذي مال لصالحهم وسط الطبقة المتعلمة، أو بسبب عنف محكمة الردة والاستتابة القسرية التي أقامها قضاة نظام نميري. ويجدر بالذكر أن الأستاذ محمود محمد طه والجمهوريين قد قدموا دعمًا كاملًا لنظام نميري منذ انقلابه في عام 1969 وحتى إعلان تطبيق قوانين الشريعة في سبتمبر ١٩٨٣ ولم يفسد عنف نميري بخصومهم من الأنصار والشيوعيين لودهم قضية. وبينما كان نظام نميري يشبه “قطار قشاش” – ينزل منه حزب ويركب آخر عند كل محطة – فإن الجمهوريين قدموا له أطول دعم متواصل حصل عليه، في أربعة عشر عامًا من أصل ستة عشر عامًا هي العمر الكلي لحكم نميري.

ورغم أن هذه المشاعر السالبة من الغبينة والتنافس مبررة في سياقها التاريخي، إلا أن الكارثة الحقيقية تكمن في تحول تروم الكيزان إلي منظور وحيد يختزل كل شرور البلاد في عدو واحد، مع إغفال تام لمصادر الخطر الأخرى التي قد تكون أحيانا الأكثر فتكاً وإلحاحاً.
هذه العقلية المنغلقة، التي أنهكها الصراع القديم حتي فقدت رشدها وفقدت القدرة على وزن خطر العمالة للأجندات الخارجية، وخطر النهب الاستعماري الممزق للنسيج الوطني.
لقد ولّدت الحرب تحديات وجودية لم تكن في الحسبان، وكان الموقف المطلوب هو تبني عقلية مرنة قادرة على قراءة هذه التحولات الجذرية، ووضع الأولويات بناءً على المخاطر الملموسة التي تهدد كيان الوطن هنا والآن، وليس انطلاقاً من أحقاد الماضي وصراعاته. فمن الحمق بمكان مواصلة التفكير بمنطق ما قبل الحرب، والتمسك بذات المواقف والمرجعيات التحليلية البالية، وإسقاط ثنائيات الخير والشر المبسطة ذاتها على واقع جديد في تمام التعقيد.
لا شك أن التمسك بعقليات ما قبل الحرب وخطابها وأولوياتها ومواقفها دليلاً صارخاً على جمود الفكر، الذي يدير ظهره للواقع ويعيش في إنكارٍ لواقع جديدٍ صنعته الحرب، وكأنها لم تحدث لتغيير أيٍّ من ثوابته المتكلسة. لقد سقط خطاب ما قبل الحرب مع أول طلقة، والمتشبثون به يحملون في أيديهم جيفة هشة، تنشر جراثيمها لتمرض الجميع.

ومن حسن ألحظ في وسط هذا المشهد القاتم، برز بصيص أمل تمثل في مفكرين وأدباء أدركوا فرادة اللحظة وخطورتها، وارتقوا إلى مستوى تحدي الواقع الجديد بجرأة. هؤلاء بصيص أمل.
لكن مع الأسف، ما يزال صوتُ الذين تقيدهم قيود الخطاب القديم – بجناحيه حسن النية والسيء النية – هو الأعلى والأكثر تأثيراً. هذا الصوت الذي يتخفى في أفضل حالاته وراء شعارات براقة عن “الحفاظ على الحياد” و”التحذير من الانحياز”، مساوياً بين جلاد وضحية. وفي أسوأ حالاته، يكون خادماً متعمداً للغزاة، يوزع الإدانات والتهم بشكل انتقائي ومختل، ويلوذ بصمت مطبق إزاء جرائمهم.

في رحلة عقل الغيبوبة من النضال الطلابي إلى الثأر السياسي تكتمل الماساة حين يتضح أنه ثار من الشعب السوداني مريح للاخوان الذين ما عليهم سوى تسخين البوبكورن والإستمتاع بحماقة خصوم ينتحرون بحرق جثثهم بأيديهم أمام محكمة الشعب.

معتصم اقرع

Exit mobile version