من خلال تلك الرحلات الافتراضية، توطدت في نفوسنا أواصر المحبة والمودة بيننا وبين شخصيات من مختلف أقاليم السودان

تعود بي الذاكرة لأيام الطفولة، ونحن تلاميذ صغار في قريتنا تنقسي الجزيرة الحالمة على ضفاف النيل، بالصف الثالث الابتدائي، إلى معلم لا يُمحى من الذاكرة، كان واحداً من كوكبة من المعلمين الذين تركوا بصمتهم الخالدة في حياتنا..
لا تزال صورته ماثلة أمامي، وهو يدخل علينا هاشًّا باشًّا، بهندامه الأنيق وشَعره الكثيف المرتب، ليُدرّسنا مبادئ جغرافية السودان من كتاب سبل كسب العيش في السودان لمؤلفه عبد الرحمن علي طه..
الكتاب شارك فيه عدد من أساتذة معهد بخت الرضا، الذين قاموا بزيارات حقيقية إلى مناطق مختلفة من البلاد شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً..
كان من بين هؤلاء الأساتذة: مكي عباس، النور إبراهيم، الشيخ مصطفى، عبد العزيز عمر الأمين، عبد الحليم جميل، أحمد إبراهيم فزع، عبد الرحمن علي طه، عثمان محجوب، مستر ومسز سمث، وسر الختم الخليفة..
وشملت الزيارات كلاً من القولد، وريرة، والجفيل، وكيلك، ويامبيو، ومحمد قول، وود سلفاب، وأمدرمان، وعطبرة، وبورتسودان..
في تلك المادة تلاقى جمال المنهج ومتعة المعرفة مع روعة وأسلوب معلمنا الجليل محمد عمر الهمجاوي، الذي غرس في قلوبنا حب جغرافية الوطن، ونحن نُنشد معه بأصوات بريئة ولحن جماعي عذب: “في القولد التقيت بالصديق، أنعم به من فاضل صديق”..
من خلال تلك الرحلات الافتراضية، توطدت في نفوسنا أواصر المحبة والمودة بيننا وبين شخصيات من مختلف أقاليم السودان كنا نحفظ أسماءها عن ظهر قلب: صديق عبد الرحيم في القولد، محمد القرشي في ريرة، سليمان في الجفيل، محمد الفضل في بابنوسة، منقو زمبيري في يامبيو، حاج طاهر في محمد قول، أحمد محمد صالح في ود سلفاب، إدريس إبراهيم في أمدرمان، وأخيراً عبد الحميد إبراهيم في عطبرة..
ذلك كان المنهج المؤثر، وذاك هو المعلم المبدع، اللذان غَرَسا في قلوبنا حب هذا الوطن المترامي الأطراف بلا تفرقة، فعرفنا أقاليمه وأهله وسبل عيشه وأحببناها منذ الصغر، حتى كبر هذا الحب معنا إلى الآن..
ولهذا تدمى قلوبنا اليوم مع كل بقعة تتألم من أرضه، كيف لا، ونحن من ردد يوماً: ومرة بارحت أهلي لكي أزور صاحبي ابن الفضل، ألفيته وأهله قد رحلوا من كيلك وفي الفضاء نزلوا، في بقعة تسمى بابنوسة، حيث اتقوا ذبابةً تعيسة”..

محمد الطاهر






