الدلالات الإيجابية لانخفاض معدل التصخم في السودان

بحسب الجهاز المركزي للإحصاء فان معدل التضخم السنوي العام شهد انخفاضا كبيرا، من 198.22% في نوفمبر 2024 إلى 74.02% في نوفمبر 2025، وكذلك انخفض معدل التضخم الأساسي من 201.54% إلى 76.24% خلال نفس الفترة ، هو علامة جيدة ومشجعة جداا في مسيرة الاقتصاد السوداني خلال ظروف الحرب الاستثنائية التي تعيشها البلاد، وهو يدل على أن الجهود الكبيرة والإجراءات التي تمت في الفترة السابقة بدأت تؤتي ثمارها .
وهذا التطور له دلالات ومؤشرات أمل على الاقتصاد السوداني ، ومنها أن هنالك استقرار جزئي للقيمة الشرائية للجنيه، لان الانخفاض الكبير في التضخم يعني أن تآكل قيمة العملة الوطنية قد تباطأ بشكل ملحوظ، وهذا يعيد الثقة في الجنيه السوداني كوسيط للتبادل ، ويخفف من الطلب علي النقد الأجنبي كملاذ آمن للادخار أو التداول، بالنسبة للمواطن العادي وشريحة محدودي الدخل فالتضخم هو الضريبة الأكثر قسوة عليه، وانخفاضه بهذا الحجم يعني تخفيفا للضغط المعيشي على كاهل الأسر ، وزيادة في القيمة الحقيقية للأجور ، ما ينعكس إيجابا على طبيعة الاستهلاك ..
كذلك يشير انخفاض معدل التضخم إلى أن الإجراءات والسياسات التي اتخذتها حكومة الامل بقيادة الدكتور كامل ادريس ، والتي تمثلت في ضبط سوق الذهب والعملات الأجنبية، ومكافحة التهريب عبر تفعيل المنصة الرقمية ، وإعادة هيكلة الجمارك، وتحفيز الصادرات، ومراجعة الجبايات غير القانونية وكذلك تخفيض الدولار الجمركي وضبط الإنفاق وإصلاح توزيع السلع الأساسية، وتحسين آليات توفير النقد الأجنبي، قد بدأت تسير في الاتجاه الصحيح وتُحدث التأثير الملموس والمرجو منها ، رغم كل التحديات الأمنية وظروف الحرب ..
وهذه السياسات مجتمعة وما نتج عنها ستساهم في خلق بيئةً أكثر قابلية وجاذبية للاستثمار ، ما يشجع الاستثمارات المحلية الصغيرة ويجعل المستثمرين يعيدون النظر في المشروعات المتوقفة بسبب الحرب، كذلك ستتوقف الأنشطة الاقتصادية الغير منتجة مثل (أعمال الجَوْكنة والسمسرة ) وتراجع هذا القطاع يساهم في توجيه الموارد نحو القطاعات الإنتاجية الحقيقية ..
أيضا هذا الانخفاض هو رسالة اطمئنان للمجتمع الدولي والشركاء الإقليميين، حيث يُعتبر مؤشر مهم يوضح أن المؤسسات الاقتصادية في السودان لا تزال قادرة على العمل والإنجاز رغم الحرب ، ما يقوي فرص الحصول على الدعم والتمويل والمساعدات الإنمائية من الخارج .
ومع هذه الدلالات الإيجابية ، مفروض ننظر لهذا الأمر من سياق الواقع، فلا يزال الاقتصاد يعمل تحت وطأة ظروف صعبة جدا بسبب الحرب، وتعطيل الانتاج وانقطاع سلاسل التوريد، وهجرة الكفاءات والأيدي العاملة ، واستنزاف الموارد، فرغم الانخفاض الكبير ، فإن معدل تضخم حول 74% يظل مرتفعا نسبيا ، لكن الهدف هو أن يتم خفضه إلى مستويات أقل بكثير وهذا ما يجري العمل عليه، فهذا التحسن هو بداية الطريق نحو التعافي الكامل ويحتاج إلى تعزيز وحماية من خلال استمرار الإصلاحات ، وتوسيع رقعة الاستقرار الأمني وإعادة الإعمار ودعم القطاع الإنتاجي ..
وإذا نظرنا إلى التجارب الدولية ، نجد أن مسار التعافي الاقتصادي في ظروف الحرب يكون شائكا ومعقدا ، والذي تحقق في السودان هو أمر يستحق التأمل والمقارنة ، ففي دول شهدت حروب طويلة مثل اليمن وسوريا وليبيا ، شاهدنا استمرار لمعدلات تضخم مرتفعة جدا ومتفاوتة بشدة ولفترات ممتدة ، وذلك بسبب ضعف مؤسسات الدولة المركزية وتعدد مراكز السيطرة على الموارد ، كما أن تجربة لبنان رغم أنها لا تخوض حربا ، لكن تجربتها تظهر كيف يمكن لانعدام الاستقرار السياسي والأزمات الداخلية أن تؤدي إلى الانهيار المالي والتضخم الكبير الطي يصعب الخروج منه دون إرادة سياسية موحدة ..
لذلك فإن ما تحقق في السودان ، رغم كل التحديات الجسام ، يظهر قدرة مؤسسية و تماسك في إدارة السياسة الاقتصادية ، كذلك يشير الأمر إلى وجود حد أدنى من الحوكمة القادرة على تصميم وتنفيذ السياسات النقدية والمالية ذات التأثير الايجابي ..

يوسف عمارة أبوسن
20 ديسمبر 2025

Exit mobile version