رأي ومقالات

هورن ريفيو: محاولة لتفسير التقارب السوداني السعودي المصري

نشر موقع “ذا هورن ريفيو”، وهو موقع استخباراتي وأكاديمي ونخبوي إقليمي، مقالاً مثيراً للاهتمام بعنوان “رهان أسياس على محور إقليمي جديد وخطوط الصدع التي تحرك دبلوماسيته” بقلم كاتبه “نادر ناسيبو” يحاول فيه شرح التطورات الراهنة بين السودان والسعودية ومصر، من منظور إريتريا. قد لا تتفق مع معظم الحجج الواردة فيه، إلا أنه يقدم رؤية جديدة للتطورات في المنطقة، وإذا ما تحققت، فقد تُغير الوضع الجيوسياسي فيها.

يقول الكاتب إن القاسم المشترك بين السعودية ومصر والسودان هو سيطرتها على معظم البحر الأحمر وشواطئه من كلا الجانبين. فهي تمتلك الموارد والقوى البشرية والمواقع الاستراتيجية، وأمنها مترابط. وأي تحالف استراتيجي بين هذه الدول الثلاث سيُشكل قوة لا يُستهان بها. لكن من المؤكد أن تحالفها سيُنظر إليه كتهديد وجودي محتمل للطرف الآخر.

ويرى المقال أنه بالنظر إلى هذه المزايا وغيرها، ستسعى إريتريا وزعيمها الحصيف آسياس أفورقي، إلى الاستفادة من الوضع. سيُشارك أفورقي في هذا التحالف بطريقة تحمي مصالحه وتُجنبه أي تهديد محتمل من خصومه التاريخيين.

وأشار المقال إلى أن الجولة الإقليمية الأخيرة للرئيس أسياس أفورقي، التي شملت مصر والسودان والسعودية خلال فترة وجيزة لا تتجاوز شهرين، جاءت تحت غطاء لغة دبلوماسية رسمية. إذ تحدثت بيانات وزارة الإعلام الإريترية عن مخاوف مشتركة، وعن الأمن الإقليمي، والتعاون الاقتصادي. إلا أن توقيت الزيارات وتسلسلها يكشفان عن قصة أكثر أهمية مما توحي به البيانات الرسمية.

فالقرن الأفريقي والمنطقة المحيطة به على نطاق أوسع يدخلان مرحلة من إعادة تشكيل جيوسياسية متغيرة، وقد ترى القيادة الإريترية في هذا التحول تهديدًا وجوديًا وفرصة سانحة في آن واحد. وتوفر تحركات أسياس نظرة ثاقبة على تصوره للمشهد الإقليمي الراهن، وكيف يعتقد أن إريتريا قادرة على التعامل معه.

من ناحية تشهد العلاقات بين إريتريا وإثيوبيا توترًا حادًا هو الأشد منذ سنوات. ويتكهن الفاعلون السياسيون في جميع أنحاء المنطقة، فضلًا عن المراقبين الدوليين، علنًا باحتمالية نشوب مواجهة مسلحة. ويتجلى القلق في المحادثات الدبلوماسية، والتقييمات الاستخباراتية، وسلوك الجماعات المسلحة داخل إثيوبيا. ويشكل هذا المناخ خلفيةً لمشاركات أسياس الدبلوماسية. وتعكس هذه الزيارات قراءةً جيوسياسيةً تضع إريتريا في قلب تنافسات متعددة ومتداخلة.

إنّ الشغل الشاغل لإريتريا حاليًا هو إثيوبيا. فعلى مدار العام الماضي، انتهجت أسمرا استراتيجيةً تقوم على التغلغل في المشهد الأمني ​​الداخلي لإثيوبيا. وسعت إريتريا إلى بناء شبكات نفوذ، وتعبئة وكلاء، ودعم جهات مسلحة قادرة على الضغط على الحكومة الفيدرالية من الداخل. إلا أن هؤلاء الوكلاء يُظهرون الآن علامات التراجع. فتمرد فانو، الذي شكّل تحديًا مسلحًا مستمرًا للحكومة الفيدرالية في إقليم أمهرة، يتفكك. وقد بدأت بعض الفصائل بالتفاوض مع الإدارة الإقليمية، منسحبةً من المواجهة المباشرة. أما جبهة تحرير شعب تيغراي، فرغم قدرتها التنظيمية الراسخة، إلا أنها تعاني من الضعف نتيجةً للانقسامات الداخلية، والعناصر المسلحة المتشرذمة في تيغراي، والخلافات المستمرة بين قيادتها السياسية وجناحها العسكري المتبقي. تقوّض هذه التطورات قدرة إريتريا على الاعتماد على الوكلاء كأداة استراتيجية.

وإدراكًا لذلك، يبدو أن أسمرا توسّع نطاق نهجها ليشمل محورًا إقليميًا أوسع، بدلًا من الاعتماد فقط على نقاط الضعف الداخلية في إثيوبيا. ويقع السودان في قلب هذه الاستراتيجية المُعاد صياغتها. فالحرب الأهلية الدائرة هناك تُعدّ من أكثر المسارح الجيوسياسية تعقيدًا في المنطقة، إذ تستقطب دولًا مجاورة وقوى خارجية تتقاطع مصالحها المتنافسة عند خطوط الصدع السودانية. بالنسبة لإريتريا، يُتيح السودان فرصةً لترسيخ وجودها في هذا التنافس الأوسع وتحويله إلى ورقة ضغط.

إن انخراط أسمرا في السودان ليس بالأمر الجديد أو الهامشي. فقد دأبت إريتريا على تعزيز نفوذها بين المجتمعات والجماعات المسلحة على طول الحدود المشتركة. وقد تشكّلت فصائل المتمردين المرتبطة بمؤتمر البجا، والتي حُشدت تاريخيًا ضد الحكومات السودانية السابقة، ووُجّهت من أسمرا. وقد استخدمت إريتريا هذه الشبكات لتحقيق أهدافها الإقليمية، وفي سياق الصراع الحالي، ازدادت أهميتها. وتُؤكّد التبادلات الدبلوماسية الأخيرة هذا الأمر. جاءت زيارة أسياس إلى بورتسودان أوائل الشهر الجاري عقب زيارة رفيعة المستوى قام بها الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى أسمرا، وسبقت وفودًا أخرى من سلطات بورتسودان، من بينهم رئيس الوزراء كامل إدريس ونائب البرهان مالك عقار. وتعكس عبارات الامتنان العلنية التي عبّروا عنها أهمية إريتريا المتزايدة للقوات المسلحة السودانية.

وقد زاد احتياج السودان للموارد العسكرية من اعتماده على إريتريا. وتشير التقارير إلى أن إريتريا قدّمت التدريب والأسلحة والدعم اللوجستي للقوات المتحالفة مع القوات المسلحة السودانية. كما يُعتقد أن الأراضي الإريترية أصبحت ممرًا لعبور الأسلحة المتجهة إلى القوات المسلحة السودانية. بالنسبة للبرهان، يسدّ هذا الدعم ثغرات حيوية؛ أما بالنسبة لأسياس، فهو يفتح له آفاقًا في ساحة جيوسياسية تمتد تداعياتها من البحر الأحمر إلى حوض النيل.

ولعلّ نزاع النيل هو الأهم في هذه الساحات. تفاقم إحباط مصر من عجزها عن التوصل إلى اتفاق يخدم مصالحها، ما أدى إلى مواجهات متكررة مع أديس أبابا. وازدادت حدة خطاب القاهرة، وتصاعدت وتيرة مشاركتها الدبلوماسية، وتصاعد موقفها الجيوسياسي. تسعى مصر الآن إلى تعزيز نفوذها في جوار إثيوبيا، وتقوية وجودها في الصومال وجيبوتي، والأهم من ذلك، في إريتريا. ومع سعي إثيوبيا الحثيث لتأمين منفذ إلى البحر الأحمر، ترى مصر فرصة سانحة. فمن وجهة نظر القاهرة، تُعدّ إريتريا نقطة ضغط محتملة، وجارة يمكن توظيف عدائها لإثيوبيا بما يخدم المصالح المصرية. وهذا ما يفسر البُعد الاستراتيجي لزيارة أسياس إلى القاهرة. فقد أتاحت هذه الزيارة لأسمرا استغلال الوضع في مصر.

يُغذي هذا الوضع الإحباط ويغذي صراعًا أوسع على النفوذ في القرن الأفريقي. لم تُؤدِّ طموحات إثيوبيا البحرية، التي شوهتها إريتريا وصوّرتها على أنها طموح مدفوع من الخارج، إلا إلى زيادة اهتمام القاهرة بتعزيز شراكتها مع إريتريا. بالنسبة لإريتريا، فإن تحالفها مع مصر يضعها في قلب أحد أهم خطوط الصدع الجيوسياسي في المنطقة، مما يمنحها حضورًا ونفوذًا مُتصوَّرًا.

ومع ذلك، فإن تدخل قوى الخليج، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، هو ما يُكمِّل الصورة. فقد أصبحت الإمارات العربية المتحدة الفاعل الخارجي الأكثر نشاطًا في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، حيث تُوسِّع نفوذها من خلال الموانئ والشراكات الأمنية والتدخل العسكري أو السياسي غير المباشر. ويُعد دورها في السودان الأكثر إثارة للجدل. إذ تربط مزاعم واسعة النطاق أبوظبي بدعمها المُستمر لقوات الدعم السريع، التي ترافقت مكاسبها الإقليمية الأخيرة مع تقارير عن ارتكاب فظائع. وقد خلقت الانتقادات الدولية المُوجَّهة لقوات الدعم السريع مشكلة في سمعة الإمارات، وقد انتهزت إريتريا هذه الفرصة.

وقد صوّرت آلة الدعاية في أسمرا الإمارات العربية المتحدة على أنها القوة الرئيسية المُزعزعة للاستقرار في المنطقة. باتت الرسائل الإريترية تُصوّر استراتيجية إثيوبيا البحرية بشكل روتيني كمشروعٍ هندسته أبو ظبي. وقد تبنّى الرئيس الإريتري نفسه هذه الرواية، مُصوّراً إريتريا كحاميةٍ ضدّ التلاعب الأجنبي. ويهدف هذا التصوير إلى التأثير على التصوّرات الإقليمية، ونزع الشرعية عن أجندة السياسة الإثيوبية، وتقريب الجهات المتعاطفة مع أسمرا.

وتتداخل هذه الاستراتيجية مع مستوىً ثانٍ من الحسابات: التوترات داخل منطقة الخليج نفسها. فعلى الرغم من أن الأنظمة الملكية تبدو منسقةً في كثير من الأحيان، إلا أن أجندات سياستها الخارجية تتباين بشكلٍ كبير. وتختلف الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية في كيفية تعاملهما مع الشرق الأوسط والقرن الأفريقي. وفي السودان، يظهر هذا التباين جلياً. فقد تراجعت المملكة العربية السعودية عن دعمها السابق للقوات المسلحة السودانية، وتركز الآن على الوساطة، وتعمل عن كثب مع الولايات المتحدة. في المقابل، تحافظ الإمارات العربية المتحدة على موقفٍ حازم، وتواصل نفي أي تورطٍ مباشر، بينما تستمر تدفقات الأسلحة إلى قوات الدعم السريع، التي تُحقق مكاسب ميدانية. وقد أتاح هذا التباين لإريتريا فرصةً لتقديم نفسها كشريكٍ مفيدٍ للرياض.

و تُفاقم التطورات في اليمن من توتر العلاقات بين السعودية والإمارات. إذ تشير التقارير إلى أن عناصر مدعومة من الإمارات داخل الحكومة المعترف بها دوليًا شنت هجومًا جديدًا في الجنوب، بموافقة المجلس الانتقالي الجنوبي. يقوض هذا التحرك بشكل مباشر جهود السعودية لتحقيق الاستقرار في اليمن عبر مفاوضات تشمل الحوثيين. وتصب هذه الأحداث في مصلحة الرواية الأوسع نطاقًا لأسمرا: أن الإمارات تسعى للهيمنة على منطقة البحر الأحمر، وأن تدخلاتها تتجاهل الاستقرار المحلي، وأن إريتريا تقف على الجانب الآخر من هذا الخلل الإقليمي.

يتصور أسياس أنه من خلال التوافق مع استياء الرياض من سلوك أبوظبي الإقليمي، وإقحام إريتريا في الصراع السوداني ونزاع النيل، يستطيع تعزيز نفوذ إريتريا. وتتمثل المحاولة في تحويل التوترات الإثيوبية الإريترية، والتنافس المصري الإثيوبي، والانتقادات الموجهة للإمارات إلى ساحة جيوسياسية مركبة تُمكّن إريتريا من المناورة. يُؤمل أن يُعوّض هذا التحالف الأوسع عن ضعف إريتريا المادي، وأن يُوفر لها حمايةً في مواجهة مُستقبلية مع إثيوبيا.

إلا أن هذه الخطة تنطوي على حسابات خاطئة واضحة. فإريتريا هي الطرف الأقل قدرةً ضمن شبكة الدول والقوى التي تسعى للتأثير عليها. وقدرتها على التأثير في قرارات بورتسودان مرهونةٌ تمامًا باحتياجات الحرب. أما تعامل مصر مع إريتريا فهو تكتيكي؛ إذ تنظر القاهرة إلى إريتريا كإحدى أدوات الضغط على إثيوبيا، لا كشريك استراتيجي. ومن غير المرجح أن تُقدم السعودية، رغم حذرها من تجاوزات الإمارات، الدعم السياسي أو العسكري الذي تتصوره أسمرا لإريتريا. إن الرواية القائلة بأن سعي إثيوبيا للوصول إلى البحر أجندة مفروضة خارجيًا تُسيء فهم الصدى الشعبي الداخلي لهذه القضية داخل إثيوبيا.

وتضع رؤية 2030، التي تُمثل جوهر السياسة الخارجية السعودية المعاصرة، قيودًا هيكلية على قدرة أسمرا على جرّ الرياض إلى سياسات المحور. إن تركيز المملكة على خفض التصعيد والدبلوماسية والتواصل عبر الوساطة قد انعكس في نهج حذر تجاه القرن الأفريقي، نهج يُعطي الأولوية لاحتواء عدم الاستقرار وتوسيع الوجود الاقتصادي على حساب التحالفات الصارمة. وبينما قد يبدو الانخراط الإماراتي مع إثيوبيا أكثر وضوحًا، ويمكن اعتبار مساعي الرياض الدبلوماسية تجاه أسمرا بمثابة ثقل موازن لنفوذ أبوظبي، فإن المصالح المادية للسعودية في إثيوبيا أعمق وأكثر أهمية. إذ تُصوّر إثيوبيا هذه العلاقة على أنها “علاقة استراتيجية متقدمة”، وتندرج إثيوبيا ضمن أجندة المملكة الأوسع نطاقًا للتنويع الاقتصادي.

تُعدّ العلاقات الاقتصادية بين إثيوبيا وإريتريا واسعة النطاق، ولا تزال التدفقات التجارية الثنائية كبيرة. في هذا السياق، يُقلّل تحليل أسياس من أهمية إثيوبيا بالنسبة للسعودية، ويُسيء فهم المنطق الاقتصادي الذي يُشكّل دبلوماسية الرياض الإقليمية.

تتسم البيئة الإقليمية الأوسع بتحولات مستمرة، حيث تظهر تحالفات جديدة بسرعة تتلاشى معها. وقد خلقت حرب السودان ترتيبات متقلبة بين القوى المتوسطة تُغيّر المشهد السياسي فجأة. تحاول إريتريا التكيف مع هذه التيارات، لكن قدرتها محدودة، ومخاطر التوسع المفرط عالية. في حين أن انخراطها في السودان يمنحها حضورًا مؤقتًا، إلا أن القيود الهيكلية التي تُشكّل الجغرافيا السياسية للمنطقة لا تزال خارجة عن سيطرتها إلى حد كبير.

بالنسبة لإثيوبيا، تحمل هذه الديناميكيات تداعيات مباشرة. قد تُؤدي سياسة الحياد التي تنتهجها أديس أبابا تجاه الصراع السوداني، انطلاقًا من الرغبة في تجنب التورط، إلى تكاليف غير مقصودة. بينما تسعى بورتسودان إلى تعزيز تحالفاتها الخاصة، وتناور إريتريا لترسيخ مكانتها كحليف لا غنى عنه للقوات المسلحة السودانية، فإن المصالح الإثيوبية معرضة لخطر التهميش أو التشويه. وإذا لم يُطعن في إطار إريتريا، فقد يُؤثر ذلك على التصورات بطرق تُعقّد الموقف الدبلوماسي الإثيوبي.

المحقق – محمد عثمان آدم