الحرب قبل الميدان “تدابير”؟

الحرب قبل الميدان “تدابير”؟
بعد 4 أشهر مِنْ يوم غدٍ نكون قد أكملنا ثلاث سنواتٍ كاملة مِنْ الحرب، وبذا ندخل في العام الرابع. ممكن نغض الطرف عن سير العمليات العسكرية؛ بإعتبارها شأن القادة والمختصين في العلوم الأمنيِّة والعسكريِّة. لكن ما لا يُمكن التغاضي عنه أنّ الدولة لم تتخذ بعد وضعية الحرب – Condition of War؛ بمعنى أنّ كيان الدولة حين يُواجهُ خطرًا محدقًا فإنّه يلجأ آليًّا -في العادة- إلى حزمةٍ مِنْ التدابير لتهيئة الظروف المحيطة لمجابهة الكارثة، وهي -أي التدابير- تختلفُ -بالطبع- باختلاف درجة الخطر وحجم التهديد. أمّا في الحالة السودانيّة الماثلة فإنّ مِنْ الواضح أنّ التهديد بلغ ذروته القصوى. مِنْ ضمن الملامح والوقائع التي يجري عندها تعين أو وصف درجة الخطر “بالخطر الشديد”: (تهديد عسكري خارجي مباشر/ حرب شاملة واسعة النطاق/ تمرّد مسلح/ حرب أهلية/ انهيار أمني شامل/ فقدان السيطرة على الأقاليم/ اختراق سيادي خطير -تجسس، احتلال، تفكك-/ فشل سيادي – Sovereign Failure: “تآكل القدرة السيادية للدولة على: احتكار العنف/ فرض القانون/إدارة الاقتصاد والموارد”.
عند هذه المرحلة -درجة الخطورة الشديدة- فإنّ استجابة الدولة المباشرة تتلخّص حول مفهوم: “الانتقال من إدارة الأزمة إلى إدارة البقاء” وحيال إدارة أمر البقاء تتخذ الدولة تدابيرًا وإجراءات استثنائية ذات سمة بارزة مِنْ الحِدّة والصرامة.
حجر الزاوية في التدابير الاستثنائية يعودُ للتدابير ذات الطبيعة العسكريِّة أو الأمنيِّة الهادفة إلى توسيع نطاق صلاحيات مؤسسة الجيش مثل: (التعبئة العامة/ فرض حظر التجوال والإغلاق/ المحاكمات عسكرية أو المحاكمات ذات الطابع الاستثنائي..) والتي بالضرورة لابدّ أنْ تترافق معها -جنبًا إلى جنب- تدابير استثنائية أخرى كذلك على الصعيد الدستوري أو السياسي: (تعليق جزئي أو كلّي لبعض مواد الدستور/ تركيز السلطة التنفيذيّة بيد القيادة العليا/ سريان أحكام الطوارئ الموسّعة دون قيد زمني/ حلّ أو تجميد بعض المؤسسات ولو مؤقتًا -حتى وإن كانت مُؤسّسات خارج جهاز الدولة التنفيذي الرسمي أو التشريعي مثل الكيانات الحزبية أو المنظومات السياسية-؛ الدولة في مصر حلّت الأحزاب وعلّقت الحياة السياسية إبّان العدوان الثلاثي وما قبله بسنوات (1952–1956) )
طيب الكلام دا كلامي؟ لا
كلام من إختراعي؟ بالتأكيد لا
كلام عساكر وبُوت وناس غاوية استبداد؟ لا كذلك
طب كلام منو؟ ههه كلام الفلاسفة النظروا لفكر الدولة نفسه -ههه والكثير منهم مِنْ المحسوبين على التيار الليبرالي الكلاسيكي، حتى فكرة ربط الليبرالية بالحِنيّة والنعومة دي ما عارف جات مِنْ وين! الليبرالية دي فسلفة من القسوة بمكان-؛ المهم نرجع.. توماس هوبز مثلًا -وإنْ كان هوبز لا يُعتبر ليبراليًّا تمامًا لكن أفكارهُ شكّلت قاعدة تطوّر مهمة لليبراليين الكلاسيكيين- عبّر بشكلٍ صريح عن فكرةِ أنّ “الدولة القوية” ضرورة للبقاء وتنظيم المصلحة العامة؛ إذ أنّ نظرة هوبز كانت سلبية ومتشائمة حول “طبيعة الإنسان”؛ أناني يميل للصراع واختلاق الفوضى.. لذا لابُد مِنْ شكل للسلطة القويّة وحاجة للاستبداد المنظم.. بل أقرّ مبدأ “السلطة المطلقة عند الخطر”.. عُصارة فكر هوبز السياسي دارت حول مصطلح (ليفياثان – Leviathan)، وهو مصطلح مركزي لدى هوبز، ويشير إلى رمز الدولة أو السلطة المطلقة التي تحمي المجتمع من الفوضى و”صراع الكل ضد الكل”.
جون لوك -أحد الآباء المؤسسين لليبرالية الكلاسيكية- أعلن بوضُوح مسؤولية الدولة عن حماية الحقوق، لكنّه أخضع التدابير القمعية لقيود؛ بحيثُ تكون مؤقتة وخاضعةً لشكل من أشكال الرقابة. أما كارل شميت -شميت ليس ليبراليًّا بالطبع بل عدو لليبرالية؛ يُحسب على التيار المحافظ السلطوي (Conservative Authoritarianism) أو ما يُسمى في الفكر السياسي بالمحافظة الثورية- فعبّر عن رفضِه لليبرالية البرلمانية؛ إذ اعتبر البرلمان مكانًا لعقد الصفقات الحزبية المغلقة أكثر مِنْ كون أنّه مؤسسة للنقاش الحُرّ. شميت قدّم تفسيرًا حول رُؤيته حيال عجز القانون -في الحالة الاستثنائية- أمام الأخطار الوجودية؛ وأوضح حقيقةَ أنّ القرار السياسي يتقدّم على الدستور عند الطوارئ. وممكن نتأمل كثيرًا حول مقولة خطرة أنتجها شميت: “السيّد هو مَنْ يُقرّر حالة الاستثناء”!
بالطبع حتى الدولة الدولة الأمنية المعاصرة القائمة على: الاشتباه، إدارة المخاطر، إدارة الخوف، إدارة المجال العام بالمنطق الوقائي.. هي نتاجُ الحداثة.
الكان جابنا هنا شنو؟ ايوه اتذكرت؛ تناول الأبعاد النظريّة لفكرة إنّه التدابير التي تُقرّها قيادة الدولة خلال لحظة الخطر ليست مجرّد فرمانات أو لوائح أو تشريعات روتينية كما أنّها ليست بالضرورة تأسيسًا لواقعٍ جديد يتسم بالقسوة والقمع كوضعٍ مُستديم؛ بل هي في الأساس إجراءات تتكئُ على أساسِ فلسفيٍّ متصل بفكرة الدولة في جوهرها -جوهر وجودها-.
نرجع للتدابير -تدابير مفردة لذيذة مش عليكم الله؟-
طب خلصت على كدا؟ لا أبدًا
أهم التدابير هي تلك المتصلة بالجند الاقتصادي وفي حالة الخطورة القصوى -التي وصفناها آنفًا- فإن للدولة الحقّ في: (تأميم جزئي أو كلي لقطاعات حيوية/ توجيه الإنتاج -“تدخّل الدولة أو السلطة المختصّة لتحديد ماذا يُنتَج، وبأي كمية، ولمن، وبأي أولوية” للإجابة على سؤال: ماذا يجب أنْ يُنتَج لخدمة المصلحة العامة أو الظرف الاستثنائي؟/ تسعير إجباري للسلع/ التحكّم الكامل في العملة والأنشطة التجارية/ منع الاكتناز والتهريب والاحتكار ومواجهته بسن قوانين رادعة وإلحاق العقوبات الصارمة بالمخالفين)
أنا استعرضت دا كلّه عشان أثبت إدعاء في بداية المقالة: أنّ الدولة لا تعيش ضمن “وضعية الحرب” أو حتى مناخات الحرب وأحوال أوضاع الطوارئ المعروفة. صح في معاناة وفقر وتضحيات ودمار وقتل وإبادة.. إلخ. لكن أجهزة الدولة لا تتصرّف وفق “وضعية الحرب”. بمعنى لما نقول حرب: يبقى حرب حرب؛ مش تملأ الفضاء بصحفيين وصحفيات خارم بارم، وعمم وملافح وتياب داخلة مارقة، وصرفة في الأرجاء، ووزير إعلام بعوعي زي ديك المسلمية، ووزراء ومسؤولون كبار محسوبون على معسكر الأعداء ضمن الطاقم الحكومي، وتغذية حاشية فاسدة من عرق الشعب، والتعدّي الصارخ على المال العام والموارد الاستراتيجية على نحوٍ غير مسبوق، وكل شهرين تلاتة وزير خارجية جديد، وحجب وتغييب مُتعمّد لمضامين رسالية جوهرية “المواطنة والواجب والمسؤولية” وإغراق المجال بالسفاهة والتسفّل والانحطاط، ورئيس وزراء مخستك ومزدوج الجنسية -وما معروف عمره الحقيقي ههه- كأنّه أمورنا تمام التمام وبننتج 5 مليون برميل نفط يوميًّا، وفرتكان داك عاد لحضن الوطن أرح نصوّره في المطار ونعمل ليه مؤتمر صحفي، ترك السواد الأعظم مِنْ الناس نهبًا للحروب النفسية والاعلامية المعادية لأنّ الاعلام الرسمي غائب والأجهزة الاعلامية غير الرسمية تعمل بلا قيود صارمة، أولاد وبنات ما مفهومين شنو مُملكين أسرار خطرة عن الدولة وببذلوها على فيسبوك!
كدا ببقى كأنّك لابس ساعة حجرها نازل وبتعاين ليها كل شويّة لمعرفة الوقت! زي ما هنا الساعة حتفقد وظيفتها لإخبارك بالوقت، ستفقد الحرب وظيفتها لتحقيق هدف النصر وسحق العدو!
عارف في “مُبرّراتيِّة” حيقولوا والله ياخ دي الدولة ودي قدرتنا.. طب لو دي الدولة ودي حدود إمكانيتها ودا حكمكم بخصوص قدرتها -وإنتو أصلًا ما استثمرتوا 1% من طاقة الدولة وطاقة الشعب الذاخرة- طب ما كان يحكمونا دقلو وناس بدران الجعيزي لو دي فعلًا حدود مُستوانا النهائية، ومنتهى مبلغ إمكانياتنا الحقيقية! ولو كدا وين وديتوا الحُلم بخصوص الانتصار؟ وخيال القوّة الدافعة القاضي بهزيمة الجنجويد وإبادتهم؟!
هذا الفضاء العام الذي يعتريه الضعف، والهزال، والنُحول العقلي لمركز السلطة، والضباب الغاتِم الكثيف، والمكتظّ بالمبرراتيِّة وبائعي التطمينات الزائفة مُقابل انحسار الأقلام المُستبصرة والرؤى الصارمة سيقودُ -لا محالة- شيئًا فشيئًا إلى وضعية “الدولة الرخوة” والانحلال التدريجي المُفضي للانهيار الكامل؛ خلال رحلة مأساوية حزينة بدأت بدولة بعقل تائه وخيال شارد؛ تعجزُ عن تنفيذِ ما تقرّه، وتنزع لحيل المساومة بدل الحكم القابض، وتميل لأنْ تتنازل وتتقهقر وتتكسّح بدلًا مِنْ أنْ تفرض وتُملي وتُرغِم.
محمد أحمد عبد السلام






