أبناء آوى و”فرصة” العدوان

*أبناء آوى و”فرصة” العدوان*
في مايو ٢٠١٩ كتبت مقالاً بعنوان (فيل ونملة) قارنت فيه بين موقف الأحزاب الكبيرة والأحزاب الصغيرة من المخاطر على البلد، وخلصت إلى أن صغر الحزب ــ إذا اقترن بطموح يفوقه كثيراً وبعدم مبدئية ــ يؤدي إلى التركيز الشديد على مصلحته الضيقة، والتغاضي عن التهديدات الكبرى التي تمس البلد ككل، بل عدم الإحساس بها من الأساس، وقد استعنت فيه بملاحظة الفيلسوف مارتن هايدغر (كما نقلها د. عبد الكريم بكار) عن مسافة الأمان للكائنات (مثلاً البقر الوحشي يحس بالخطر من على بعد ٥٠٠ ياردة، بينما سحلية الحائط من على بعد ٦ أقدام فقط.) وخلصت إلى أن الحزب الصغير صاحب الأطماع التي تفوق حجمه تعميه هذه الأطماع وتقلص مسافة أمانه فلا يرى إلا الخطر الذي يقترب منه كثيراً ويهدده بصورة مباشرة.
* جاءت مواقف عدد من الأحزاب الصغيرة من العدوان الإماراتي موافقة لما جاء في ذلك المقال، وقدمت إثباتاً عملياً لعدم الشعور بالخطر، ليس فقط عندما كان يحوم حول الحمى، بل أيضاً عندما وقع فيه، وأضافت جديداً لم أعطه حقه في الكامل ذلك المقال، وهو الاستثمار في الخطر. والتعامل معه كفرصة، وأيضاً يمكن العودة إلى الغابة وإحساس الصغار بالخطر وسلوكهم إزاءه لكن من زاوية الفرصة والاستفادة.
* مثلاً ابن آوى كائن انتهازي، يتحرك في ظل الكائنات الأقوى، ويكيف سلوكه ليحصل على أكبر استفادة منها، فهو لا يقاوم الأسد، ولا يرى فيه تهديداً للغابة، ولا يتعاون مع الفرائس للمقاومة او الإفلات، لكنه يتعامل مع هجمته عليها كفرصة، يراقب الافتراس، متابعاً لما يأكله الأسد وما يبقيه، مقدراً لنصيبه المتوقع من بقايا الفريسة، ليهجم عند شبع الأسد ويتناول ما تركه من بقايا.
* بعد فشل الانقلاب وتحوله إلى حرب انتقام وتدمير تجمعت في كيان تحالفي واحد أحزاب وحركات صغيرة بحجمها، أو بإدراكها للمخاطر. وحَّدها تبنيها لسردية الميليشيا، وعدم وصفها لما تقوم به الإمارات بالعدوان، وعداوتها للجيش، وبدت كقطيع من أبناء آوى يتفرج على الافتراس، وينتظر نصيبه منه.
* أخطأ من ظن أن تكتل هذه الكيانات ــ بما أنه سيزيد من الحجم العددي ــ سينتج عنه موقفاً يشبه مواقف الكبار. فالعكس هو الصحيح. لأن تحالفها تأسس أصلاً على المواقف الصغيرة، فكان متوسط موقف التحالف من العدوان الأجنبي أقل من أي موقف صريح يمكن أن يتخذه حزب منفرد منها. فأكثر الأحزاب صغراً في حجمها وفي إدراكها كانت هي الأكثر تأثيراً وقادت الجميع إلى مواقف أسوأ مما يتجرأ عليه أي واحد منها منفرداً!
* لاحقاً لم يعد الأمر عند كل الحركات المسلحة المنضوية في هذا الكيان التحالفي، وبعض الأحزاب، مجرد عدم إحساس بخطر العدوان على الوطن لأنها صغيرة في حجمها وإدراكها فلا تراه، ولم تستمر في دور المراقبة وتقديم الخدمات وانتظار نصيبها من الفريسة، بل قطعت المسافة والتحقت مباشرة بالمفترس. وأخرج البقية هذا “الانقسام” بشكل احتفائي، وبعضهم اختار قضاء فترة المراقبة في البلد المفترس ربما لتنسيق أفضل للدفاع، ومراقبة أجود للافتراس، وحساب أكثر دقة لنصيبهم، وربما استلام بعضه مقدماً!
* لأن حزب الأمة القومي ليس حزباً صغيراً بالمعنى العددي، فإن هذا جعله حالة خاصة داخل كيان يجمع الأحزاب والحركات الصغيرة. فطول عشرته للصغار تسبب في حالة تفاوت إدراكي لدى قادته، أي تفاوت مسافة الأمان/ الإحساس بالخطر. وفي مسألة العدوان الإماراتي توزع إلى أربعة فئات: من تصرفوا بوعي الكبار ورأوا خطره كما هو ووقفوا ضده، ومن راوا خطره ورفضوه مع ميل حذر للتوافق مع الأحزاب الصغيرة التي لا ترفضه، ومن تصرفوا بوعي الصغار فلم يروا خطره، وساروا في ركاب الأحزاب الصغيرة المستثمرة فيه، ومن التحقوا به مباشرةً!
* على خلاف حالة الأسد وابن آوى، حيث الافتراس، والمراقبة وانتظار الفتات فحسب، قامت هذه الأحزاب والحركات بأدوار مساعدة في العدوان، مثل الدفاع عن الدولة المعتدية، والهجوم على منتقديها. وقام جوهر دفاعها على فكرة أن هناك أطراف أخرى “متدخلة” ــ لم تقل معتدية ــ إذن الهجوم على الإمارات، في رأيها، هو شيطنة/عدوان معنوي عليها يستحق الإدانة التي لم تستحقها هي!
* يبقى التشابه قائماً رغم أن هذه الصورة الحيوانية لا تحتوي على خدمات يقدمها ابن آوى للأسد، ولا جوائز/حوافز/ رشاوى/ وعود يقدمها الأسد نظير خدمات، والفرق هو بين الغريزة الحيوانية البدائية التلقائية، والفعل الإنساني الواعي المقصود، فالعقل الإنساني الأناني لم يزد الصورة الحيوانية الغريزية إلا سوءاً!
* كما رأينا تحول الخطر الوجودي الذي يهدد الدولة في وعي الصغار إلى فرصة، وكأنه فقط ضد خصومهم، وكأنه سيخلق واقعاً سياسياً جديداً يحسن فرصهم ويضعف المنافسين، ويقلل مناعة الدولة من التدخلات الخارجية. لتنتج عن ذلك البيئة المثلى للكيانات الصغيرة. فكما يعيش ابن آوى على هامش معارك الأسود، يعيش الصغار على هامش العدوان.
لكن تبقى الحقيقة هي أن الأسد الذي يتوهمونه ليس أسداً، وإن كبر أذاه، والسودان ليس فريسةً، وإن عظمت الخسائر والتضحيات، وأبناء آوى لن يحدوا بقايا فريسة بل وطناً يقاوم بكرامة (هذه الكلمة التي يمقتونها تماماً كالميليشيا وسيدها الأجنبي) ، ولن يسجل لهم التاريخ إلا العار، ولن يثيروا إلا السخرية عندما يلقون المواعظ الأخلاقية والوطنية في إثناء تحلقهم حول “الفريسة” وانتظارهم نصيبهم من وجبة “المفترس” الذي يريد أن يحقق كل أطماعه بجمعه بين العدوان، والوساطة، والتفاوض!
إبراهيم عثمان





