تحوّلت ديسمبر إلى معبد. نُصّبت لها آلهة صغار، وكهنة يحرّسون الخطاب

لم تكن ديسمبر معجزةً هبطت من غيب السياسة، ولا كتابًا منزّلًا يُتلى ولا يُناقَش. كانت اندفاعًا إنسانيًا عاريًا، لحظة كثيفة من الشجاعة والارتباك، صنعها بشرٌ من لحمٍ وخوفٍ وغضب، ثم انقضت كما تنقضي كل اللحظات الكبرى حين تستنفد معناها. غير أن الجريمة لم تقع في ديسمبر، بل في من صادروا معناها، ورفعوها من مقام الحدث إلى مرتبة الوثن، ومن الذاكرة إلى العقيدة، ومن الفعل إلى سلطة أخلاقية متعالية.
ورثة ديسمبر لم يرثوا شجاعتها، بل ورثوا أسوأ ما في نخب هذا البلد الغطرسة، وضيق الأفق، واليقين السام بأنهم الشعب، وما عداهم هوامش لا تُرى أو تُتَّهم.
هكذا يولد الاستبداد دومًا، لا من فوهة البندقية، بل من عقلٍ يعتقد أنه الحقيقة الوحيدة. لم تبلغ ديسمبر يومًا حدّ الإجماع، ولم تمتلك كتلة الشعب، ومع ذلك تصرّف بعض أبنائها كأن الوطن إرث خاص، وكأن السودان حقل تجارب لأوهامهم الأخلاقية.
لا ثورة بلا مجتمع، ولا تغيير يُصنع فوق رؤوس الناس. من لم يصطحب الأغلبية، ومن لم يخاطب خوفها ومصالحها، ومن لم يحترم تعقيدها، لن يقود إلا صدى صوته. الصراخ لا يصنع مشروعًا، والهتاف لا يبني دولة، والحنجرة مهما اشتدّت لا تُغني عن العقل والتنظيم والقدرة على الإقناع. السياسة ليست نشوة، بل مسؤولية، ومن عجز عن حملها فليتوقف عن ادعاء الطهرانية.
ثم تحوّلت ديسمبر إلى معبد. نُصّبت لها آلهة صغار، وكهنة يحرّسون الخطاب، ويقمعون الشك، ويخوّنون السؤال. كل نقد كفر، وكل مساءلة خيانة، وكل محاولة لفك الأسطورة اعتداء على “الثورة”. هكذا يُخنق الفعل التحرري في مهده، حين يُستبدل العقل بالصراخ، والضمير بالشعار، والعدالة بالقداسة.
الشعب، لا هؤلاء، هو من صنع أكتوبر ومارس وديسمبر، وهو ذاته القادر على أن يصنع غيرها. لكن في كل مرة، تُستدعى طاقته، ثم يُلقى به خارج المعادلة. يُترك له التعب، وتُترك له الذاكرة مثقلة بالتماثيل والرموز، ويُمنح لقبًا واحدًا كتعويض هزيل: “ثائر”. أما السلطة، فتذهب دائمًا إلى من يجيدون سرقة اللحظة.
وديسمبر، مع كل هذا الخراب اللاحق، تظل أنقى ما عرفت، وأعظم ما شاركت فيه. لكنها تبقى إنجازًا، لا معبودًا. ذكرى، لا شريعة. الحر لا يركع لإنجازاته، ولا يسمح للماضي أن يتحول إلى سوط يُجلد به الحاضر. من يعبد لحظة، يعجز عن صناعة المستقبل.
ثم تبلغ المأساة ذروتها حين تُجزّأ الدماء. حين يُفرَز الشهداء إلى مراتب، ويُمنَح بعضهم قداسة، ويُدفع الآخرون إلى الهامش. أي ميزان هذا الذي يجعل للقتل معنى هنا، ويبحث له عن مبرر هناك؟ كيف يصبح القصاص شعارًا في موضع، ومصالحة وطنية في موضع آخر؟ أي سقوط أخلاقي هذا؟
لا شهيد أسمى من شهيد. لا دم أرفع من دم. من سقط مدافعًا عن كرامته وأرضه في دارفور أو كردفان أو الجزيرة لا يقل شأنًا عن أي اسم صُنع له تمثال في الميادين. شهيد واحد مات وهو يحمي الفاشر يكشف زيف كل ثورة تقايض العدالة، ويفضح كل خطاب يقبل أن تُقسَّم الكرامة.
الثورة ليست ملكًا لأحد، ولا ميراثًا سياسيًا، ولا رخصة استعلاء. هي امتحان أخلاقي قبل أن تكون حدثًا سياسيًا. ومن حوّلها إلى صنم، سيكتشف متأخرًا أن الأصنام لا تحمي أصحابها، وأن المعابد التي تُشاد فوق الدم، لا بد أن تنهار.
سهيل القراي
#ترجمة_وتلخيص
#المجد_للبندقية





