ما الذي لم يقله الدكتور كامل إدريس؟

في الثالث عشر من ديسمبر الجاري، طلب السودان رسمياً من مجلس الأمن الدولي عقد جلسة لبحث تطورات الأوضاع في البلاد، وهو الطلب الذي لم يتم الإفصاح عنه إلا قبل يوم من جلسة الأمس، ضمن نشرة صحفية أصدرها المجلس نفسه!!
بناءً على هذا المُعطى، نستطيع القول أنه منذ ذلك الحين، حسمت القيادة السودانية أمرها بأن تستجيب لما طرحته الرباعية الدولية في الثاني عشر من سبتمبر الماضي، بشأن الهدنة الإنسانية و وقف إطلاق النار، لكن على طريقتها الخاصة، وقررت أن تعرض هذه “الطريقة الخاصة” أمام مجلس الأمن الدولي، ربما بناءً على نصائح أصدقاء السودان داخل الرباعية نفسها، وأعني بهم المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية .
ما يهمنا من هذه التقدمة، هو القول أنه كان أمام السودان الوقت الكافي لإعداد الرسائل التي يريد عرضها أمام مجلس الأمن، ضمن الخطاب الذي سيلقيه رئيس الوزراء، ويعرض فيه خطته لإحلال السلام، ليس فقط لكون السودان هو مَن طلب عقد الجلسة، ولكن أيضاً لأن لديه من التجارب ما يكفي لمعرفة السرديات التي درجت دول بعينها تقديمها أمام المجلس بشأن الحرب التي تدور في البلاد منذ ما يقارب الثلاثة أعوام، ولديه معرفة بأنواع التحايل الإجرائي الذي درجت دول مثل بريطانيا القيام به إزاء طلبات السودان المعروضة أمام المجلس وقضاياه التي يعرضها آخرون. فهل نجح السودان في وضع سيناريو مسبق للكيفية التي ستسير بها الجلسة، واحتاط لعرض قضيته أمام الجلسة المفتوحة بالأمس على النحو الذي يعيد تذكير الغافلين والمتغافلين بطبيعة ما يجري في السودان منذ أبريل 2023، أم أن ما قدمه السيد رئيس الوزراء كان أقل مما هو مطلوب .. وما هو المطلوب أساساً حتى يتم القياس عليه؟
إذا استثنينا ما قاله المندوب الروسي والمندوب الجزائري وإلى حد ما المندوب الصيني من بين الدول الأعضاء في المجلس، وأضفنا إلى هذا الاستثناء ما قاله المندوب المصري والمندوب التركي ممن حضروا جلسة الأمس من غير الأعضاء، فإن جميع مَن تحدثوا من ممثلي الدول تبنوا سردية “الطرفين” ووضعوا جيش السودان وكأنه “طرف” يقاتل طرفاً آخر، مع تفاوت كلماتهم في تحميل مسؤولية ما وقع من انتهاكات وفظائع لهذا الطرف أو ذاك؛ ومع هذا فإن كلمة السيد رئيس الوزراء، التي جاء ترتيبها قبيل الختام لم تعر هذا الأمر إهتماماً، ولم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يخرج عن النص المكتوب سلفاً بمترادفاته وسجعه، ليقول لهؤلاء القوم إنكم تناقضون أنفسكم عندما تتحدثون عن ضرورة الحفاظ على سيادة السودان وسلامة أراضيه، في الوقت الذي تساوون فيه بين جيشه الوطني، المكلف دستورياً بحفظ السيادة وسلامة الأراضي، بفصيل كان جزءاً منه وتمرد عليه وتحول إلى عصابة تمتهن القتل والترويع ولم تدع جريمة من جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية إلا وارتكبتها.. ولم يقللهم إنكم تخطئون حين تساوون بين شرعية حصول جيش نظامي على السلاح من أي بلد كان وبين تدفق الأسلحة على المليشيا المتمردة بواسطة دولة بعينها، وفي تحد مباشر لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة!!
لم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يقول للمتحدث باسم الولايات المتحدة، الذي قدّم الجيش السوداني على الدعم السريع في ارتكاب الانتهاكات، أنني لن أرد على اتهاماتك الجوفاء لجيش السودان ولكني أحيلك إلى ما وثقته نيويورك تايمز وما كشفه مختبر البحوث الإنسانية في جامعة ييل وما أفاد به الدكتور ناثينال ريموند حول جرائم الدعم السريع في دارفور؛ ولم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يقول للمندوب الفرنسي أنني أحيلك إلى تحقيقات قناة فرانس 24 عن الأسلحة الأوروبية التي تنتهك قرار مجلس الأمن 1591 وتتدفق نحو دارفور، وأحيلك إلى آخر تحقيق استقصائي نشرته وكالة الصحافة الفرنسية عن مسارات المرتزقة الكولومبيين من بوغوتا إلى دارفور، لتعرف مَن هو “الطرف” الذي يرتكب الفظاعات والانتهاكات؛ ولم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يقول للمندوب البريطاني إن شركات تجنيد المرتزقة الذين يرتكبون الفظائع في دارفور مسجلة في عاصمة بلادكم وتمارس نشاطها الاجرامي من هناك، وإن أردت المزيد عليك بمطالعة صحيفة الغارديان!!
ولم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يقول للأعضاء إن مجلسكم الموقر هذا هو الذي عجز، على مدى تمانية عشر شهراً، عن تنفيذ قراره رقم 2736 ويجبر مليشيا الدعم السريع على فك حصارها لمدينة الفاشر، وهو الذي عجز لأكثر من شهر عن إرسال أي شكل من أشكال العون لأهل الفاشر، بعد أن دخلتها عصابات الدعم السريع، وهم يُذبحون أمام أنظار العالم حتى أن دماءهم صارت ترى بالاقمار الاصطناعية.
ولم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يقول لأعضاء مجلس الأمن إن الفاعل الحقيقي، لكل الجرائم التي وقعت في حق المدنيين السودانيين، يجلس ممثله بينكم هنا، وأن هذه الحرب التي تتحدثون عن ضرورة توقفها، كان يمكن أن تتوقف قبل عامين لولا الدعم الإماراتي المتصل دون انقطاع إلى مليشيا الدعم السريع، ذلك الدعم الذي سخرت له الإمارات دول جوار السودان في غربه وجنوبه وشرقه، وسخرت له البحار والأجواء والبراري، وجلبت له كل أنواع الأسلحة المتطورة وجيوش المرتزقة من أفريقيا وأمريكا اللاتينية !!
ولم يشأ السيد رئيس الوزراء، وهو يتحدث عن إدماج المقاتلين السابقين من منسوبي الدعم السريع، ضمن خطته التي عرضها، أن يفتي شأن “المقاتلين الأجانب” من المرتزقة الذين استجلبتهم دولة الإمارات للقتال في السودان، عبر سلسلة معقدة من الشركات التي يتخذ بعضها من الإمارات نفسها مقار لها، ولم يطالب بملاحقتهم ومحاكمتهم ومحاكمة من جلبوهم .
لم يشأ السيد رئيس الوزراء أن يسمي الحرب التي يخوضها شعب السودان وجيشه بأنها حرب عدوان، ولم يشأ تسمية المعتدين، وانصرف عقب الجلسة دون أن يعود إلى منصة التصريحات الصحفية ليجيب على السؤال الذي اعتذر عن الإجابة عليه قبل الجلسة،عن الدور الإماراتي، أو ليعلق على مجريات الجلسة التي قصد منظموها أن يعطوا فرصة الحديث الأخيرة فيها لممثل دولة الإمارات، ليكرر على أسماع الحاضرين مقولات بلاده الممجوجة بشأن السودان وجيشه، وليحدثنا عن الحكم المدني والتحول الديمقراطي!!
هذا ما بدا لي أنه كان على السيد رئيس الوزراء أن يقوله، ليس بالضرورة على هذا النحو الذي تم عرضه به، ولكن كرؤوس مواضيع أرى أن عدم التطرق لها، في مثل جلسة الأمس، أمر يصعب تفسيره.
العبيد أحمد مروح





