هل ما زلنا كما وصفنا الإنجليز؟

حساب Sudan History على منصة X (تويتر سابقًا) حسابًا شيقًا يوثق الكثير من تاريخ السودان الحديث. قبل عدة أيام، استوقني فيه خبر منسوب للعام 1951 جاء فيه أن كبار المسؤولين البريطانيين رأوا أن القادة السودانيين يمتلكون القابلية لحكم ذاتي مستقل، لكن كأفراد فقط، لا كمجموعات. وأضافوا أن السودانيين ما زالوا متفككين، يتعاملون مع بعضهم بقليل من الثقة وكثير من الغيرة والحسد، مما يمنعهم من العمل سويًا.

يبدو أن ذلك الوصف الاستعماري لم يكن مجرد رأي عابر، بل خلاصة مراقبة دقيقة لبلدٍ كانت تتشكل فيه معاني الوطنية وتتنازع فيه الولاءات بين القبيلة والطائفة والحزب. كان البريطانيون يدركون أن ضعف الثقة بين أبناء الوطن هو الضمانة الأنجع لاستمرار السيطرة عليه.
ومما ينسب للبروفيسور عبدالله الطيب قوله: “إن هناك قبائل عربية من الجزيرة العربية اشتهرت بالحسد قبل هجرتها إلى السودان، وأن عددًا كبيرًا من هذه القبائل قد هاجر وامتدّ وجودها داخل السودان”.

هذه الملاحظة تضيف بعدًا تاريخيًا للحديث عن أسباب التفكك الاجتماعي والسياسي، إذ تشير إلى أن بعض ملامح الغيرة والحسد ليست مجرد تراكمات استعمارية، بل لها جذور عميقة في تاريخ التكوين القبلي والثقافي لبعض المكونات السودانية.

ولا يقتصر الأمر على الحياة السياسية أو الوطنية، فالغُيرّة والحسد تمتد أيضًا إلى المستوى المهني والوظيفي، سواء في مؤسسات الدولة، أو في القطاع الخاص، أو داخل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، أو حتى داخل أي تنظيم مهني أو أهلي في أحد الأحياء. كثيرًا ما تتحول المشاريع المشتركة إلى ساحات صراع على المنصب، أو الاعتراف، أو النفوذ، وهو ما يعيق التعاون ويضعف أي جهد جماعي، مهما كانت نواياه نبيلة.
وكما قال الدكتور أحمد زويل:
«الغرب ليسوا عباقرة، ونحن لسنا أغبياء، هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل».
هذه العبارة تلخص بشكل بليغ ما نعانيه أحيانًا في مؤسساتنا ومجتمعنا، حيث تصطدم المبادرات الناجحة بالغيرة والحسد بدل أن تحظى بالدعم والتقدير، مما يعيق تقدمنا الجماعي.
لكن السؤال المؤلم الذي يفرض نفسه بعد أكثر من سبعين عامًا: هل تغيّر شيء؟
هل نجحنا فعلًا في بناء مشروع وطني يتجاوز الفردية والتشرذم، أم أننا ما زلنا نعيد إنتاج الصورة ذاتها بألوان جديدة؟

حين نتأمل مسارنا بعد الاستقلال نجد أن معظم أزماتنا، من الانقلابات المتكررة إلى الحروب الأهلية، ومن الفشل الاقتصادي إلى ضعف المؤسسات، تعود في جوهرها إلى عجزنا عن العمل الجماعي، وإلى غياب الثقة المتبادلة بين مكونات الوطن. لا تزال روح المنافسة الصغيرة، والغيرة السياسية، والجهوية الضيقة تتقدّم على روح الشراكة الكبرى لبناء السودان.
ومع ذلك، لا يخلو المشهد من إشراقات أملٍ تؤكد أن هذا الشعب قادر على النهوض متى ما اتحد حول هدف وطني صادق. فقد تجلّت وحدة السودانيين في لحظات تاريخية عظيمة — في ثوراتهم، في مقاومة العدوان، وفي المواقف النبيلة التي تبرز وقت الشدائد.
ربما السؤال الأهم اليوم ليس: هل ما زلنا كما وصفنا الإنجليز؟

بل: متى نكسر هذا الوصف ونكتب بأنفسنا تعريفًا جديدًا للسوداني؟ ذلك التعريف الذي يبدأ من بناء الثقة لا الشك، ومن التعاون لا التنافس، ومن الإخلاص للفكرة الوطنية لا للمصلحة الضيقة. حينها فقط نستطيع القول إننا تجاوزنا الصورة التي رسمها المستعمر، وبدأنا في رسم صورتنا بأنفسنا صورة شعبٍ جديرٍ بوطنه، ووطنٍ جديرٍ بشعبه.

عمر محمد عثمان
22 ديسمبر 2025م

Exit mobile version