إلى الراجين الري في الجزيرة … عندما تصبح المواسير مواسير

من اللزمات الاسلوبية الشائعة التي تستخدم في التعبئة لإنجاز بعض المشاريع القائمة التي أصابها البوار أو تراجعت في مخرجاتها، عبارة “سنعيدها سيرتها الأولى”، يبدو لي أن هذا قصور في الهمة وزهد في التطور، إذ يجب أن يكون الطموح في السعى نحو الأحسن والأجود ، فتلك السيرة الأولى الحسنة أنجزها قوم سلفوا فينبغي أن يكون سعيك أنت نحو الأحسن، كما أن الحقيقة تقتضي أن نضع في البال أن تكرار التاريخ بإيجاد نسخة طبق الأصل من الذي مضى أمر مستحيل، فالماء لايجري في ذات مجرى النهر مرتين …فلابد أن يكون هناك تغيير بفعل عامل الزمن حتى ولو كان ذلك الزمن ثانية واحدة.
أريد التوسل بهذة الرمية للحديث عن سيرة مشروع الجزيرة الأولى التي ينادي بإعادتها البعض، فهذا المشروع قد تكون له شيء من الفترات المربحة بالنسبة للانجليز الذين أنشأوه، وكذا حكومات السودان المبكرة التي ورثت الحكومة الانجليزية، وكذلك للموظفين الأوائل الذي عملوا فيه، أما بالنسبة للشريك الرئيسي وهو المزارع فسيرته الأولى سيرة مؤسفة كلها ظلم واستغلال واستحمار والحساب ولد، و(المكضبنا وما مصدقنا) يقرأ منشورنا القادم إن شاء الله ..
دا كله كوم أما الكوم الآخر وهو الأهم أن هذا المشروع وبموارده الضخمة الحالية من مساحة واسعة، و أرض سهلية طينية منحدرة، نسبة التبخر والتسرب فيها منخفضة، وشمس مدارية ساطعة، ومياه سطحية ومنسابة، وأمطار موسمية متفاوتة، وموقع جغرافي قاري ليس بعيداً من البحر ، وكثافة سكانية مرتفعة، ونظام ري من خزانات (سنار الرصيرص) وقنوات وكباري، وخبرة تراكمية، وعروتين صيفية وشوية، تتيحان إنتاج محاصيل غذائية ونقدية، و خضروات، وفواكه، ومنتجات غابية ومنتجات حيوانية وسمكية، (لندع باطن الأرض وما فيها من مياه جوفية وبترول ومعادن جانباً لأن ذلك سوف يدخلنا في الاقتصاد الريعي)، وإن كانت المياه الجوفية يمكن أن تقوم بدور تكميلي لما تقوم به المياه السطحية إذا دعت الحاجة، هذا المشروع بهذه الامكانيات لم يعط أكثر من عشرة في المية من طاقته المتاحة … بعبارة أخرى تسعين في المية من طاقة المشروع غير مستغلة أو مهدرة… (الفقر كعب) خاصة ذلك النوع من الفقر الذي يفضي للمزيد من الفقر (أها دا ياهو فقرنا ذاتو )…
رغم كل الذي تقدم أسمحوا لي بأن أناقض نفسي وأتمنى أن تعود قنوات الري الرئيسية والفرعية في المشروع، إلى شكلها الأول من حيث العمق والحواف وإن شئت قل الضفاف، في الجزيرة يقال (قيفة الترعة) ياربي المهندسين بسموها شنو ؟ …ماعدا الشكل كل نظام الرى قابل للتطوير إلى أن يصل الري بالتنقيط والرشاشات … حتى شكل القنوات قد يقتضي التطور المدروس تغييره ..ولكننا الآن في اليوم العلينا دا والحالة النحن فيها دي ، محتاجين وبصورة عاجلة للقنوات بصورتها القديمة …محتاجين لمعالجة الخراب الذي أصابها في مطلع تسعينات القرن الماضي …
القنوات الرئيسية في مشروع الجزيرة كانت أبقاراً مقدسة، ممنوع منعاً باتاً الاقتراب منها إلا لمهندسي الري وكراكاتهم، أما القنوات الفرعية فكان يقوم عليها غفراء أشداء يلبسون عمامة صفراء، المزارع ينتظر الماء في أبوعشرين، أي اقتراب للمزارع ناهيك عن المواطن العادي من مأسورة الترعة أي القناة يعتبر جناية توجب المساءلة ..
صيانة القناة تقوم على ثلاثة أركان المحافظة على حافتيها ومستوى ارتفاعهما ثم إزالة الطمي وإزالة الحشائش وبهذا يظل المنسوب في المستوى المطلوب، لم يكن هناك حفراً سنويا .. الكراكة (أم دلو) كنا نراها كل أربع سنوات في القناة الفرعية، هذة الكراكة رغم قبحها كان يعشقها أبو الري الحديث في السودان المهندس صغيرون الزين صغيرون ..فلُقب بـ”عاشق الكراكة” لأنه كان يرى فيها الزراعة المفرهدة…و البهائم الراتعة ..كان يراها مدخلا للخير والخصب والنماء …كان يراها وجهاً حسناً لأنها تجلب الخضرة، من يطلب من الدكتورة انتصار الزين أن تكتب كتاباً عن والدها العظيم كما فعلت خالتها البروف فدوى عبد الرحمن علي طه لوالدها العظيم لكي يعرف السوادنة من الذي بنى السودان الحديث ؟ ..فيما يليني فإن شاء الله شرعت في هذا لكي أثبت أن ذلك المزارع في مشروع الجزيرة هو عظيم وصانع تاريخ ولايقل إسهاماً في بناء هذا السودان المنكوب ببنيه السياسيين ..
عودة إلى موضوعنا بعد هذا التداعي، كان الطمي المستخرج في العام في كل الجزيرة حوالي ستة عشر مليار متر مكعب .. يوضع على جانب القناة …تمشي عليه الحيوانات السارحة …ثم تحمله الريح إلى الحواشات فيزيدها خصوبة …كانت عمليات الحفر يقف عليها مهندسو الري وعماله بأدواتهم العملية والعلمية ليأتي مستوى المياه ومنسوبها في القناه بالوضع المطلوب بالشوكة والشنكار كما يقولون ….. وبالدراجي يسمون ذلك (ميزانية الترعة)، فيندر أن تسمع شكوى من العطش ، لا في أول الترعة ولا في آخرها …لا في أول بيت ولا آخر بيت (معذرة التفصيل لأهل الجزيرة أما للأهل من خارجها فالمقصود هو كل الأرض المزروعة تروى بالصورة المطلوبة )..
ثم مر على السودان زمن أهملت الزراعة واضطربت الإدارة في الجزيرة للبوار العالمي الذي إصاب محصول القطن، عماد الدورة الزراعية وداعم الخزينة العامة الأول، وتم تهميش مهندسي الري من قبل الإدارة الزراعية …. وظهرت الشركات المسنودة سياسياً.. التي امتلكت البوكلينات الخفيفة بدل الكراكات الثقيلة … وأعطيت عطاءات الحفر في الجزيرة دون مناقصة معلنة …ورفعت عنها الرقابة… وحوسبت بالكم وليس بالكيف… فأخرجت في عام واحد قرابة المائة مليار متر مكعب من الطمي… فاضطربت ميزانية القنوات فأصبحت المياه فيها دون مستوى مأسورة أبوعشرين … وأصبحت ضفافها عبارة عن جبال لا تطلعها بقرة أو عنزة أو نعجة .. ولا تحمل الريح منها إلا النذر اليسير … من أراد دقة الأرقام عن الطمي عليه الرجوع لتقرير لجنة الدكتور عبد الله عبد السلام …لقد قرأته ساعة صدوره… وضاع الآن مني ضمن ما ضاع من المكتبة التي أوقد الدعامة بها النار تحت سرير السكسبندة لشواء لحم بهائمي … فكتبت ما كتبت عنه من الذاكرة التي لم يقصر الدعامة معها هي الأخرى ..
مناسبة هذا الموضوع هي أنني شاهدت فيديو مرسل لي من بلدياتي وصديقي الاستاذ عبد الله جاد الله أحمد نمر مدير وكالة سونا للانباء السابق .. والمزارع الآن .. يظهر فيه أهلنا المزارعين من قرية الهبيكة وهم يخوضون في قناة الري لتنظيفها من الحشايش يدوياً لتلافي العروة الشتوية .. المنظر يكشف التدهور الذي وصل إليه الري في المشروع …في نفس الوقت وصفه عبد الله بأنه برضو كويس …اتفق معه في أنه برضو كويس ولكن مع زيادة في الحيثيات وإن شاء الله هذا هو موضوع مقالنا القادم.
دكتور عبد اللطيف البوني






