إشارة حمراء
لم يعد مجرد تلك الإشارات الضوئية التي تعمل على توجيهك وتنظيم حركة السير في طريق الإسفلت العام يجدي.. وبقدر ما تزايد عددها واجتهد رجال المرور في توفيرها على مفارق الطرقات لتعينهم على مهامهم النبيلة في ضبط الشارع وتحقيق سلامة المارة والسائقين بقدر ما تزايدت الأبعاد المدهشة المترتبة عليها.
فحالما توقفت عند شارة المرور عليك أن تهيئ نفسك لكل الاحتمالات: إمكانية التسوق، حصار المتسولين، تعرضك للسرقة والاحتيال، والغواية!!
فسرعان ما يركض الباعة الجائلون باتجاهك عارضين بضاعتهم عليك بمختلف أنواعها ما بين أجهزة كهربائية ومفارش ولعب أطفال وملابس وسجاد وجداريات وصحف وحتى الفاكهة!!.. وبذات الإلحاح يمعن المتسولون بسحناتهم الغريبة في الطرق المتواصل على زجاجك والهمهمة بكلمات غير مفهومة تبدو في ظاهرها دعوات وهم يرمقونك بنظرات وقحة تتوعدك بالويل والثبور إن أنت لم تهرع لمد يدك إلى جيبك ومنحهم ما يريدون، علما بأن أحدهم قد ألقى في وجهي عملة حديدية من ذوات الخمسين قرشا بكل بجاحة على اعتبار كونها خارج تسعيرة التسول!!
وما نلاحظه جميعا أن غالبية متسولي الإشارات من الأطفال من الجنسين.. يبرعون في الإلحاح.. وبعضهم يمارس التسول المقنع بتمسح الزجاج! ولم يعد خيار التصدق والإعانة متروكا لإمكانياتك ووازعك الدينى.. فأحيانا تمد لهم يد العون لتهرب من إلحاحهم أو خوفا منهم.
ولشد ما تدهشني المتسولة التي تكون في كامل زينتها.. مخضبة البنان بالحناء وآثار استعمال (الكريمات) بادية علي وجهها.. ثم تدعي العوز والمسكنة.. وهي (تلفح) رضيعا على كتفها كواحدة من أدوات المهنة.. بربك من أين أتيت بالوقت والاستعداد النفسي لهذه الحناء وعنائها؟.. وكيف يطاوعك قلبك على استخدام رضيعك كمؤثر طبيعي على قلوبنا المرهفة يحقق مراميك التسولية؟
يقال إنه قد لا يكون ابن بطنها.. ولكنها تستأجره وتعيده آخر النهار إلى ذويه ومعه (توريدة) متفق عليها!! ويقال إن تنظيما قويا يقف وراء شبكة المتسولين هؤلاء!! ويقال إن غالبيتهم من جنسيات غير سودانية!! فهل بلغت أذن الحكومة تلك (القوالات)؟
ثم ماذا عن سرقات الأستوبات تلك؟.. فحالما وقفت لهذه الثواني المعدودة هرع أحدهم لإلهائك عن يسارك.. بينما سارع الآخر لفتح الباب المجاور أو الخلفي ليفر بجوالك أو حقيبتك أو ما تصله يده من غنائم ولا يعنيه إن كانت أوراقا مهمة أو حاسبا آليا يحتوي ثمار جهدك وعملك.. ثم يذوبان على عجل قبل أن تنتبه من ذهولك على أصوات أبواق السيارات من خلفك ﻷن الإشارة قد تحولت للون الأخضر دون أن يعني أحدا ما حدث معك فالمروءة في بلدي ماضية نحو الانقراض شأنها شأن كل الأخلاق الحميدة!!.. ولن يجديك حينها الركض أو التبليغ.. وستجد نفسك مرغما على الرضا والاحتساب (والله يعوضك)!
أما الحديث عن الغواية.. والمعاكسات.. والبنات والأولاد الذين يعرضون أجسادهم على الطريق العام وعند التقاطعات فلن أخوض فيه كثيرا ﻷن أدعياء الشرف ممن يهاجمون أقلامنا متهمين إياها بالمبالغة وتشويه صورة المجتمع السوداني الجميلة سيخرجون عليّ بدعواهم.. والشاهد أن العين لا يمكنها أن تنكر التردي الأخلاقي والانحراف والابتذال في الشارع العام إلا من عمى.. ولا يمكننا أن نظل على دفن رؤوسنا في الرمال طويلا. وما طال المجتمع الآن من تغييرات سالبة يشيب لها الولدان وتثير الرعب في الأبدان، وتصدم العقول بالوقائع والإحصاءات وشكل الممارسات ونوع الممارسين!!
إن الإشارة الآن حمراء.. ولا يمكننا أن نمضي قدما دون أن نتوقف عندها.. لا سيما وأن كل أحاديثنا بهذا الصدد قد ذهبت أدراج الرياح، فلا حكومة تحرك ساكنا للحد من هذه الظواهر.. ولا المجتمع يتنادى لمحاربتها.
ونحن لا نملك سوى هذا القلم الباهت.. الذي كثيرا مايكسره الرقيب.. ويظل في كل الأحوال أضعف الإيمان.. و(قف).
*تلويح:
أحيانا لا يعني الضوء الأخضر إمكانية العبور.. فسلطة رجل المرور تلغي فاعلية الإشاره!!
[/JUSTIFY]إندياح – صحيفة اليوم التالي