“الدكاترة”.. ولادة الهنا
#موروث اجتماعي قديم، وفكرة إنسانية راسخة تؤكد أن الطب هو أعظم المهن والعلوم الإنسانية التي تدُر المال وتُكسب صاحبها الهيبة والاحترام وتحقق له المكاسب الاجتماعية والمادية المختلفة. ولكن هذا الاعتقاد أصبح الآن اعتقاداً مغلوطاً، وربما لذلك بدأ الأطباء في إعلان الإضرابات المتتالية، فما الذي يدفع الطبيب، هذا (الملاك الرحيم) للإحجام عن القيام بالدور الإنساني المناط به والمبادرة بإعلان إضراب واضح وصريح؟ لماذا أصبح الطبيب عاجزاً عن (الزواج المبكر) ولا يتمتع بامتيازاته القديمة المعتادة؟!
الإجابة الوحيدة هي: (المال(.
هذا السيّد اللعين الذي يُبدد كل الأشياء الجميلة والمعاني النبيلة في أعماقنا ويستعبدنا. ورغم تحفظاتي على مبادرة الأطباء ولجوئهم للإضراب أحياناً بكل ما يترتب عليه من سوء وتفاصيل سالبة؛ إلا أنني وبعد الوقوف على حقيقة الأمر، وجدت أن معهم الحق، كل الحق، فهم لم يجدوا الوسيلة المناسبة للاحتجاج على الظلم الواقع عليهم بعد أن سُدّت أمامهم كل الطرق ولم يتبق لهم سوى سياسة ليّ الذراع والإضراب هذه.
وكنت إلى وقت قريب على اعتقادي الجازم بأن الطبيب هو ذلك الثرى (المرطّب)، وكثيراً ما تحسرت على عدم تفوقي العلمي الذي دفعني إلى الكليات الأدبية وألقى بي في مهنة التعب اللذيذ هذه، ورحت أمني النفس بأن يصبح أحد أبنائي طبيباً يشار إليه بالبنان ليحقق لي كل أحلامي العريضة، ولكنني ضحكت على نفسي كثيراً، وأنا أقف دائماً على النقاش الحاد الذي يدور بين أحد أعمامنا اللطفاء وابنه الطبيب، إذ يتهم الأول ابنه بالكذب ومحاولات التملص من المسؤولية، وجحوده، وتوانيه عن رد الدين وتعويض والده عن كل ما بذله لأجله طوال سنواته الدراسية على أمل أن يتخرج طبيباً ويغدق عليه العطايا والمنح، فالوالد غير مقتنع أبداً بأن ابنه الطبيب لا يتجاوز راتبه الشهري بضعة مئات من الجنيهات فحسب، بينما يقسم الابن بأغلظ الأيمان على أن هذا هو الراتب الحقيقي الذي يتلقاه من الوزارة، ويحاول أن يدفع والده ليحمد الله كثيراً على أن ابنه قد تمكن من الحصول على وظيفة ورقم بوزارة الصحة، لأن غيره من زملائه الأطباء أصبحوا أشبه بسائقي (الركشات) يتخبطون بين المشافي يعرضون تعاونهم ويرضون على مضض بحفنة من الجنيهات تأتيهم في شكل حوافز لأنهم لم يكونوا من سعداء الحظ الذين تم استيعابهم ضمن أطباء وزارة الصحة المحدودين.
#لذلك أتمنى نيابةً عن الأطباء العموميين والنواب وأطباء الامتياز أو من يعرفون بصغار الأطباء أن تعيد وزارة الصحة- شفاها الله- النظر في أوضاعهم ومراعاة ظروفهم الخاصة والعامة، لأنني – والحق يقال – وجدت معظمهم يعمل في صمت دون أن يتمكن من تنفيذ أي إضراب أو احتجاج لدواعٍ إنسانية، أو ربما لإحساسهم بأن الإضراب لم يعد هو الحل ما لم تتعامل رئاسة الجمهورية التي رُفع إليها بيان بمطالبات الأطباء من قبل والمجتمع عامه؛ بشيء من الحكمة والإنصاف مع قضية هؤلاء الأطباء الذين لم يطالبوا بأكثر من مساواتهم بنظرائهم في وزارات العدل والطاقة وبعض البنوك الحكومية، وقد أخضعوا أوضاعهم لدراسة موضوعية مقارنة بمنشورات مثل القضائية وقطاع البترول وبنك أم درمان الوطني تحديداً، ووجدوا أن نظراءهم يصرفون مرتبات باهظة ومريحة مقابل مرتباتهم القليلة التي لا تسد حاجاتهم الإنسانية ولا تفي بأغراضهم ومتطلباتهم، غير أنهم مطالبون دائماً بالابتسام والترفق والاهتمام بالغير والمثالية على حساب مشاكلهم الخاصة وأعصابهم كما أن بيئة العمل المتوفرة رديئة وغير مهيئة وطاردة وهذا ما دفع الكثيرين منهم للهجرة خارج البلاد بأي ثمن وأصبحت هنالك شركات ومنظمات أجنبية متخصصة للاتجار في الأطباء السودانيين عياناً بياناً بمعدل ثلاثة إلى أربعة آلاف طبيب كل ثلاثة أشهر، ووزارة الصحة لا يعنيها من الأمر أكثر من مساومتها لهؤلاء الأطباء المهاجرين بشطبهم من سجلاتها مقابل الإفراج للوزارة، في ظل ما يعانونه من كمد. أما غير المقيدين في سجلات الوزارة فسيظلون يتنقلون هنا وهناك مقابل الحوافز الزهيدة التي تدفع من عوائد المستشفيات المخصصة لها من الوزارة، والتي قد لا تتناسب مع معدلات ما تدخله المستشفى فى ظل التردى الصحي الواضح إلى خزانة الوزارة والدولة!!
أخيراً.. أرجو أن تتعامل جهات الاختصاص مع قضية إضراب الأطباء بشيء من الإنسانية والحياد آخذين في الاعتبار ظروفهم الأسرية، علماً بأن بيان صغار الأطباء قد تضمن نصاً بمراعاتهم لتحديات البلاد واضعين في الاعتبار ميزانية الدولة.
: تلويح#
أليس مؤسفاً أنه لم يعد أي من أبنائي الصغار يتمنى أن يكون طبيباً؟!
إندياح – صحيفة اليوم التالي