أما “عثرت” البغلة بعد
*المكان: دارالمايقوما.. الزمان: يوم آخر في تاريخ الطفولة البائسة.. الوقائع: أنا ورفيقي في زيارة روتينية معتادة درجنا عليها بانتظام بدافع صداقة الدار.. نقف مع الأخت المديرة المثابرة (زينب أبو جودة) فى الفناء نتباحث إمكانيات العون.. واحدة من سيارات النجدة والعمليات الشهيرة 999 تدلف إلى الدار كعادتها في تسليم الأطفال حديثي الولادة بعد تخلي ذويهم.. نلتفت جميعاً لرؤية القادم الجديد.. تلجمنا المفاجأة برؤية رجال الشرطة وهم يفتحون الباب لطفلة في الرابعة وطفل في الثانية يحملان حقائبهما وملابسهما في معية أحد عمال المقاصف بالسوق المحلي، ليحدثنا عن ترك والدتهما لهما في معيته بدعوى قضاء بعض حوائجها بالسوق من الساعة السابعة صباحاً ولم تعد بعدها! لم يجد بداً من إخطار الشرطة التي آثرت تسليمهما للدار! وبغض النظر عن دوافع الأم وظروفها ومبرراتها لتنازلها عن كامل أمومتها, لكم فقط أن تتخيلوا تلك الطفلة الغضة وهي شاخصة حائرة تتشبث بأخيها فى إحساس مؤلم بالمسؤولية تجاهه وتحاول أن تروي ظمأه بجرعة ماء.. وتهمس لي وأنا أحاول أن أهدئ من روعها وأشرح لها هوية المكان.. بسؤال برئ طعنني في مقتل: (أمي بتجي متين؟ هي ما بتعرف المكان ده لكن! وآآآه من وجعي.. من تراها فيهما الأم؟.. التي ألقت بأطفالها للمجهول أياً كانت ظروفها؟ أم التي يساورها القلق على تلك الأم التي خسرت رهان الأمومة..؟
# لقد جالت بخاطري كل الاحتمالات المنطقية التي تبرر فعلة تلك الأم.. تعرضها لحادث مروري مثلاً لا قدر الله.. ضياعها وسط الزحام.. إصابتها بحالة مرضية مفاجئة أو إغماء.. الشيء الذي يجعل تخليها عن أولئك الصغار قسرياً يحتاج لمجهوداتنا في الإعلام بالتضامن مع رجال الشرطة للبحث عنها وتسليمها أبناءها في أقرب فرصة وهو ما يجعل المسألة مسألة تضافر جهود ووقت ليس إلا.
ولكن ماذا لو أنها فعلاً تركتهم عاااامدة بملء إرادتها لظروف حياتية كالفقر والجوع وضيق العيش, أو للتملص من مسؤولياتهما وعدم القدرة على تربيتهما , أو لشيء فى نفس تلك الأم يعبر بوضوح عن أنانيتها وشخصيتها الغير سوية التي دفعتها للتنازل عن أغلى إحساس إنساني..!؟
سنترك الفرضية الأولى جانباً ونجتهد في التعاون مع جهات الاختصاص بحثاً عن الأم.. وسنسلط الضوء أكثر على بقية الأسباب المحتمل أن تكون وراء ذلك السلوك اللا إنساني.. وستصب جميعها في نظري في مصب التردي الأخلاقي والاقتصادي والفساد والعوز الذي نحياه.
هذه الأم حالما كانت بريئة من تهمة القسوة- سيكون ذنبها وذنب أولئك الأطفال معلقاً على عاتق أولي الأمر حتى يوم القيامة.. فاليأس الذي يعتري أماً ويدفعها للإتيان بهكذا سلوك لابد وأن وراءه عوزاً شديداً وقلة حيلة ويأس مرير ودوافع مريعة.!
# فبربكم أي درك أسفل من اللا إنسانية قد بلغناه؟.. وأين ضاعت المروءة من القلوب ليلجأ عامل المقصف في أقل زمن للشرطة دون أن يفكر في البحث عن الأم أو تقديم الرعاية المطلوبة للصغار والصبر عليهما..؟
لماذا كانت (المايقوما)- وما أدراك ما المايقوما – هي الخيار الأول؟.. (هى ناقصة) ومن المسؤول عن كل ذلك الخوف والقلق اللذين أغرقا عيون الطفلة بالدموع في مشهد لن أنساه ما حييت وهي تحاول الالتصاق بأخيها الصغير بحثاً عن بعض الأمان والدفء ربما بينما هو ذاهل عن كل شيء والدمع المالح قد رسم أخاديد على وجهه وكأنه فقد قدرته على البكاء والشعور بغتة؟.. تجول عيونهما في الوجوه.. وتشرئب أعناقهما نحو البوابة على أمل أن تدخل الأم فجأة على عجل محملة باللهفة والأشواق والقلق وتنهي هذا الكابوس المزعج الذى يعيشانه.
# ترى ماهو المصير الذي ينتظرهما؟.. وهل سيظلان معاً أم ستتفرق بهما السبل؟.. وهل تعلمون أن هناك حوالي 80 طفلاً أودعتهم أمهاتهم (المعلومات) دار المايقوما يداً ليد..؟
سيسألني البعض عن الحلول المقترحة.. وسيتحامل علي آخرون متهمين إياي بسوء الظن في تلك الأم.. مطالبين الإعلام بمحاولة إنهاء مثل تلك القضايا.. وسأقول للجميع إن الحكاية أكبر من هذه الواقعة التي سردتها.. إنها قضية شعب بأكمله أصبح معظمه مستعداً للتنازل عن كافة القيم والمبادئ والإنسانية في سبيل لقمة العيش.. شعب (يتعثر) كل يوم بمطبات الغلاء والهوان والأسى والحيرة.. لقد تجاوز الأمر يا سادتنا (تعثر) مجرد بغلة.. لقد مات كل القطيع في براري التقشف.!
# تلويح:
رجاءاً.. اجعلوا زيارة (المايقوما) ضمن أجندتكم للأيام القادمة.. عساها تعيد لقلوبنا بعض الرحمة.
إندياح – صحيفة اليوم التالي