العودة إلى سنار “1-2”
السيارة تنهب الطريق بسرعة.. والشجيرات المترامية تركض من حولها على تلك البيد وكأنها في سباق محموم معها… الشمس تلفح وجهي بهجيرها.. وأنا شاخصةً في هذا الفضاء اللامتناهي، أراقب الأفق في انتظار ظهور بعض الآثار المتفرقة للحياة البشرية هنا وهناك !!
السراب يلمع أمامي على امتداد البصر.. السائق يقطع الصمت أحياناً ليمارس دوره كدليل سياحي فيخبرني باقتضاب عن أسماء القرى و(الحلال) التي نمر بها ويعرفني على بعض ملامح الطريق.. الراديو يصدح فجأة بصوت الرائع (عصام محمد نور) مردداً “فتنة الأنظار.. قلبي فيك احتار”! وأنا مفتونة بكل هذا الاتساع والجمال والمشاهدات المدهشة.. والحيرة تناوشني وتطلق الأسئلة التعسفية في ذهني: “متى يمكننا الاستفادة من كل هذه المساحات الشاسعة؟ وهل السبب الأساسي في معاناتنا وتردينا يمكن أن يكون اتساع رقعة البلاد الكبيرة هذه، مما يجعل أمر السيطرة عليها وإحكام متطلباتها عسيراً؟! ثم كيف لا أجد خاصاً يأويني على طول هذه البلاد وعرضها وأظل أرزح تحت وطأة الإيجار وبلادي تسع الجميع من كل الاتجاهات؟”
كلها أسئلة مشروعة دارت برأسي، وأنا في طريقي للمرة الأولى لولاية سنار بدعوى كريمة من السيدة (حليمة يعقوب) وزير الإعلام والثقافة والشباب والرياضة هناك.
وكانت الولاية تستضيف منذ أيام الملتقى الإعلامي الأول للتعريف بالولاية ومتطلبات العمل الإعلامي والثقافي هناك.
الرذاذ يحسن استقبالنا على مضارب (سنجة).. والحزن يعتصر قلوبنا لأننا نتمنى لهذه الولاية واقعاً أفضل.. نرى أنها تستحقه لما تعج به من الموارد الطبيعية الثرة التي أراها لم تستغل بعد!
دخلنا (سنجة) ليلاً.. وتوجهنا مباشرةً لمسرح الوزارة، حيث تقام فعاليات الليلة الاحتفالية بالملتقى.. ابتسمت حين وجدت الفنان (عصام محمد نور) يعتلي المنصة شادياً.. لاريب.. فهو عندليب الجزيرة الأسمر.. الذي تبلل صوته بالندى.. وتجلت الوداعة والطيبة في محياه.. وكللت الأخلاق الحميدة هامته.
الوزيرة تستقبلنا استقبال الفاتحين.. والوالي (أحمد عباس) منهمك في الإصغاء لأغنيات عصام والطرب باد على محياة وابتسامته معلقة دائماً على وجهه!!
المسرح مكتظ بالزملاء الإعلاميين الذين سبقوني من الخرطوم وبأهل الثقافة والإعلام السناريين والعديد من المهتمين والجمهور الغفير.
الطيبة تحفك من كل اتجاه.. والبساطة تشع من الوجوه.. يغمرونك بالاهتمام والابتسام.. وهو جعل الارتباك سمتي الرئيسة وأنا أعتلي الخشبة لأنثر بعض أشعاري المتواضعة على هذا الأثير المضمخ بالرطوبة والعبير.. المهمة عسيرة.. والعيون التي ترقبني متطلعة.. وكلماتي تتقاصر أمام تاريخ سنار الأدبي.. أتعثر في البوح والصور المتلاحقة للعظماء محمد عبد الحليم.. نبيل غالي.. شبونة.. ود المأمور ورابطة سنار الأدبية العريقة وغيرهم تزحم رأسي وتشعرني بالتقازم!!
أسأل الله أن يفتح عليَّ بالكلمات فأحسن التعبير في حضرة أهل سنار المجبولين على الأدب والثقافة..
الأمسية تمضي على خير.. والتحايا وعبارات المودة والتقدير تخرس ألسنتنا فنعجز عن الامتنان..
الصدفة الذهبية تجمعني بأسماء صحفية براقة لم يقدر لي أن ألتقيها ونحن نركض في العاصمة الحضارية لاهثين وراء متطلبات الحياة.. ولكننا التقينا في رحاب سنار على المودة والبشاشة والضحكات العميقة!!
ربما كانت هي رحلتي الأولى.. ولكني أسميها تيمناً (العودة إلى سنار).. على أمل أن نعود مجدداً في واقع أفضل لتلك الولاية العريقة الضاربة في عمق المجد والأصالة والتاريخ الإسلامي..
سنعود قطعاً لسنار يوماً بإذن الله.. وسنعود غداً لنواصل رحلتنا هناك..
تلويح:
ماذا لو زرعنا تلك المساحات الممتدة على طول الخمس ساعات من الخرطوم إلى سنار؟!
أي فارق اقتصادي عظيم سيحدث في حياتنا؟!
إندياح – صحيفة اليوم التالي