تاريخ وتراث مُهمَل
مدرسة البرقيق المتوسطة التي التحقت بها وعشت في مبانيها بعيدا عن أهلي، تقع في مركز حضارة كرمة النوبية العريقة، وكنا ونحن في حجرات الدراسة ننظر شمالا عبر النوافذ فنرى ذلك المبنى العملاق المسمى «الدفوفة» وعرفنا لاحقا أنه قلعة عسكرية عمرها آلاف السنين، وإلى الشرق منها كانت هناك دفوفة أخرى، حولها تماثيل ضخمة لكباش وصقور ومنحوتات عجيبة، (دفي diffi تعني في النوبية القصر والقلعة) ولأن الحكومات المصرية والسودانية المتعاقبة تعمدت إهمال آثار ممالك وحضارات النوبة، خشية أن يؤدي الاهتمام بها وتدريس تاريخها الى تفكير النوبيين في إقامة دولتهم الخاصة، فإلى يومنا هذا تكاد المناهج في مصر تخلو ذكر الحضارة النوبية وكونها سبقت الحضارة الفرعونية ثم تفاعلت معها شدا وجذبا بالتأثير غير المباشر أو الغزوات المتبادلة، رغم كل الترويج السياحي لمعابد الأقصر والكرنك وأسوان وفيله، أما في السودان فقد ابتلانا الله بحكومات لا تعرف قيمة التاريخ قديمه وحديثه لأنها إما غير راغبة في تعلم الدروس والعبر من استقراء التاريخ، وإما لأنها مصابة بإعاقات ذهنية تجعلها لا تفهم جدوى الاهتمام بالتاريخ ودراسته، فعلى سبيل المثال فإن عدد الأهرامات في السودان يفوق عددها في مصر عشرات المرات، (وإن كانت أصغر حجما بكثير من الأهرامات الثلاثة في الجيزة) ولكن ما من جهة في السودان تروج لتلك المعلومة، وجاء عصر التعدين العشوائي للذهب في السنوات الأخيرة، وأكتشف بعض الباحثين عن الذهب أن تماثيل ملوك النوبة والأواني الفخارية والمعدنية أعلى قيمة من الذهب، فكانت ظاهرة التنقيب العشوائي عن الآثار.
والشاهد هو أن في السودان مناطق شاسعة بها كنوز تاريخية ذات قيمة ثقافية عالية، ولكنني أتفهم عدم ترويج حكوماتنا للسياحة في تلك المناطق، فليس هناك فندق واحد على امتداد آلاف الكيلومترات التي تنتشر فيها الأهرامات والقلاع والقصور والقبور التي تحوي لوحات تحسب أنها رسمت قبل أسبوع وليس 5000 سنة، وهناك في المدن القريبة من المعالم الأثرية مبان تحمل مسمى فنادق، ولكنني لا أنصح عدوا أجنبيا بالإقامة فيها حتى «لا يشيل حالنا»، كما نقول في السودان كناية عن: «الفضح والفضيحة»، فالغربيون هم أكثر خلق الله ولعا بالمعالم التاريخية، ولكنهم ليسوا ذوي ميول انتحارية حتى يأتوا ليشاهدوا معالم التراث النوبي وهم لا يعرفون أين سينامون وماذا سيأكلون. أما السياح العرب فلا شأن لهم بالآثار والتاريخ لأنهم ينقسمون إلى فئتين الأولى محافظة وتزور دول أوروبا وآسيا لـ«تغيير الهوا» والتسوق، فقد تدخل المتحف البريطاني في لندن (وفيه جناح كامل لحضارة كرمة النوبية)، عشرين مرة في شهر واحد ولا تقابل عربيا واحدا فيه، وقد تتجول نصف ساعة في شارع أوكسفورد فتحسب ان اللغة العربية هي اللغة الرسمية في العاصمة البريطانية، أما الفئة الثانية فهي الباحثة عما نسميه في السودان «البهجة» ونعني بالكلمة الهشك بشك.
وحتى أهلي النوبيين الذين يتباهون بتراث وحضارة أجدادهم لا يكلف معظمهم نفسه عناء تفقد ذلك التراث أو حتى المحافظة عليه، ومن المألوف في منطقتنا أن يجد مزارع او حفار قبور إناء فخاريا أو عقدا من الخرز مدفونا في الأرض فيلقي به جانبا أو ينهال عليه بالفأس حتى يفتفته، وكتبت من قبل عن تمثال ضخم لأحد ملوك النوبة ظل ملقى على الأرض لسنوات في منطقة «تمبس»، ولأن التمثال كان عاريا فقد تطوع أهل المنطقة بإجراء عملية ختان له واستأصلوا أعضاءه التناسلية بالفؤوس، وبعدها بسنوات جاءت بعثة آثار أجنبية ونقلت التمثال الى المتحف القومي في الخرطوم.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
كلامك فى محلو كالعادة وانا اتسأل عن عدد وزراء الاثار والسياحة الذين تعاقبوا على السودان كانوا بعملوا فى شنو ؟؟؟