ودخلنا عصر التلفزيون
أتوقف طويلا عند مدرسة وادي سيدنا الثانوية لأن الغرض من هذه السلسة من المقالات تناول سيرة جيل بدأ التعليم في عصر ما قبل الكهرباء، ليعرف الجيل المندهش بالآيفون والآيباد والآيبود والواي فاي، أن جيلنا الذي تعلم الكتابة على ألواح الأردواز الحجرية، عاش وتعلم في ظروف يتمنى كل سوداني لو «تعود»، فكما أن سبق لي ان شرحت في برنامجي عندما فكرت في لحظة طيش، خوض الانتخابات الرئاسية فإن أهم بند فيه كان العودة بالسودان 40 عاما إلى الوراء كي ينعم المواطن بالرخاء، دون أن يكون ولد/ بنت فلان، وقد وافاني الصديق شوقي محي الدين أبو الريش وكان زميلا لي في وادي سيدنا، بحكاية ذات دلالات، فذات يوم فوجئنا في نادي المدرسة بشاب «غريب» يقف أمام صندوق واجهته زجاجية، واستجمعنا شجاعتنا واقتربنا من الصندوق وسألنا عنه فقالوا لنا: هذا شيء اسمه التلفزيون وانتظروا حتى تشوفوا العجب والعجاب، وفي المساء طوق نحو سبعمائة طالب ذلك الجهاز الذي كان موضوعا على نافذة تطل على ساحة خالية (لأن قاعة نادي الطلاب لم تكن تتسع لتلك المئات)، و… يا للهول، فقد ظهر على الشاشة شخص يتكلم، وبعدها جاء شيخ يتلو القرآن ثم نشرة أخبار رأينا فيها الوزراء يتحركون ويتكلمون ثم فاصل غنائي.. ومع انتهاء كل فقرة والانتقال إلى أخرى كانت الأيدي تدوي بالتصفيق (كان معنا حق فالسودان والعراق أول دولتين في العالم العربي طرحتا الخدمات التلفزيونية).. يا سلام.. راديو صوت وصورة.. وقرع الجرس في التاسعة والنصف ليلا إيذانا بحلول موعد إطفاء الأنوار والشروع في النوم ولكن هيهات.. ما يصير نترك الجماعة في التلفزيون صاحين ويتكلمون معنا وننام.
ولكن الشاهد في الحكاية التي ذكرني بها الصديق أبو الريش هي أننا عرفنا أن الشاب الذي أتى بالتلفزيون هو ابن أحد الوزراء وجاء منقولا إلى المدرسة من ثانوية خاصة، وعلى الفور خرجنا في مظاهرة عارمة تطالب بطرده من المدرسة: نخوض مطحنة مع الاف مؤلفة للفوز بكرسي في المدرسة وابن الوزير «عايز ياكلها والعة»، ووالده يريد أن يقول لنا «الخير على قدوم الواردين وأهه ولدي جاب لكم التلفزيون»، وهكذا اختفى صاحبنا من المدرسة ولأنه كان هناك تنسيق قوي بين الاتحادات الطلابية في كافة المدارس الثانوية فقد أبلغنا المدارس الحكومية الأخرى باسم ذلك الشاب حتى لا يتسلل إليها بحيلة أو بأخرى، ولم نتعرض لعقاب جماعي أو فردي لأننا تحدينا وزيرا متنفذا، بل أنا متأكد من أن ناظر (المدرسة) اتخذ القرار بلا تردد لأن انتظام الدراسة أهم من مجاملة وزير انتهازي (واليوم في جامعتنا إذا لم تحصل على المجموع الذي يؤهلك للالتحاق بالكلية التي ترغب فيها يمكنك أن تغطي العجز في الدرجات بالكاش).
والشاهد هو أننا سبقنا رصفاءنا في الدول العربية والأفريقية في مشاهدة البث التلفزيوني، وإذا كانت هناك مباراة بين ناديي الهلال والمريخ انهار الانضباط، فحتى لو انتهت المباراة قبل حلول موعد النوم الإجباري، كان مشجعو النادي المنتصر يطوفون في مظاهرات فرح صاخبة، بينما يهجر أنصار الفريق المهزوم غرفهم ويختفون وسط الأشجار المحيطة بالمدرسة.. وكانت «الكورة» في ذلك الزمان تستحق الفرجة والتعصب فقد كانت كبريات الأندية العالمية تأتي الى السودان لخوض مباريات تجريبية قبل البطولات الكبرى وهكذا أتتنا أندية سانتوس وفاسكو دي جاما من البرازيل والهونفيد المجري ودينمو موسكو وليفربول ومنتخبات يوغسلافيا وتشيكوسوفاكيا.. فقد كان ذلك عصر عباقرة الكرة السودانية صديق منزول وبرعي وجكسا وماجد وامين زكي وعمر التوم وقرن شطة والضب ونجم الدين وسبت دودو، وصرنا اليوم نستعين بلاعبين أجانب صلاحيتهم منتهية وصارت فرقنا مثل «الضب» تنهار مع أول هبشة للكرة.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
[FONT=Courier New]استاذي الفاضل قد تعلمت منك اشياء كثيرة واشكرك على هذه الدروس التي قد ساعدتني في التقدم الى وعي ثقافي غير ممنهج فكن القارئ والمتابع لك منذ اكثر من 10 اعوام او اكثر من ذ ان كنت تكتب في جريدة الوطن السعودية اكاد ابالغ ان كل الزواية كنت احفظها وكنت المثل الاعلى ربما اكاد اعرف كم من الابناء لك واين عملت بعد شركة ارامكو
شكرا لك استاذي على ما تعلمت منك
ابو ورد [/FONT]