داليا الياس

مؤانسة

[JUSTIFY]
مؤانسة

# يقال إن الإنسان من الإنسانية، والنساء من النسيان، وأقول إن الإنسان أيضاً من الإنس والأُنس والمؤانسة، فالإنسان كائن اجتماعي، وحيوان ناطق، يستعين بنطقه هذا على التواصل مع الآخرين، والإعراب عن مشاعره وأفكاره ورغباته، ولا يستطيع أحدنا أن يعيش وحيداً منطوياً على ذاته؛ ما لم يكن إنساناً غير سوي، يعاني من نقص في إنسانيته. والمؤانسة تسعد الجميع، والأُنس والسمر من مظاهر الانشراح والبهجة، والسعادة تأتي بالمشاركة وتكتمل بين الناس.

# فلماذا نضن بفضل المؤانسة على أولي الفضل؟.. إني أعجب لنماذج إنسانية لا تتقن فعل المؤانسة مع الأقربين! علماً بأن المؤانسة معروف، وذوو القربى أولى به، وفي الأثر (عجبت لرجل أدرك أحد أبويه ولم يدخلاه الجنة) أو في ما معناه، والكثيرون منا يدركون أحدهما أو كليهما ثم يظنون أن البر بهما يقتصر على الإدام والكساء وتوفير العلاج ومعاودة الطبيب.

# أعرف والداً كهلاً بلغ من العمر أرذله بالقدر الذي جعله يحتاج إلى الآخرين في قضاء جل حوائجه، ولأن الرجل من الوداعة وخفة الروح بمكان؛ اعتدت أن أعوده دائماً لأنعم بسرده المشوق لذكرياته الممتعة وثقافته النادرة، والرجل أخذت منه السنوات ما أخذت، ولكنها لم تفقده تلك الذاكرة الفولاذية ولا القدرة العجيبة على “الحكي” بطريقة محببة، وكانت ظروفي القاهرة قد حالت بيني وبينه زمناً، فحملت بعضي وذهبت إليه مؤخراً لأجده على غير ما عهدته، بائساً مكتئباً وقد فقد حيويته، وفقدت عيناه بريقها، تعجبت لحاله وظننت أن مكروهاً قد أصابه، فسألته عما به وما طرأ عليه؛ فأكد لي من بين دموعه أنه بخير لا يشكو من عرض ولا مرض، غير أنها الشيخوخة، ولكنه يتمنى من الله أن يقبض روحه ويريحه.

# هالني حزنه ويأسه، هو المتشبث بالحياة وبكل إيمانه المطلق بسنتها وفطرتها، وحين ألححت في فهم أوضاعه؛ صارحني بأنه لا ينقصه سوى المؤانسة، وأكد أن أبناءه يقومون بواجبهم تجاهه على أكمل وجه، فطعامه حاضر في موعده ومتوافق مع أوضاعه الصحية، وعقاقيره الطبية متوفرة، وملابسه نظيفة وفيها الجديد دائماً، وهم يعتنون بنظافته الشخصية ويوفرون له ما يلزم، غير أنهم لا يجلسون إليه ولا يبادلونه (الونسة)، فالكل مشغولون عنه بتفاصيلهم، وحتى الأطفال الصغار لا يملكون الوقت اللازم ليداعبهم أو يروي لهم الحكايات، وهذا بات يشعره بالحزن وأنه بلا قيمة ولا فائدة.

# إنه تماماً كواحدة من قطع الأثاث التي توجد بالمنزل، لم يعودوا في حاجة إلى رأيه أو مشورته، ولا يعنيهم أن يتداولوا معه أي حديث ودود أو سياسي أو ثقافي أو رياضي رغم أنه يملك القدرة على النقاش والتداول وإبداء الرأي، كل ما يجده منهم تحايا مقتضبة وأحاديث قصيرة تدور حول السؤال عن صحته وما يحتاجه فحسب، ليمضوا بعد ذلك إلى حالهم على عجل.!!

# والحقيقة أنني لم أعرف ماذا أقول له، وبماذا أواسيه، كما أنني لا أملك الجرأة الكافية لأتحدث إلى الأبناء عن هذا الأمر؛ خشية أن أثير حفيظتهم عليّ وعلى والدهم فيعتقدون أنه بات يشكوهم للغير، ولكنني توقفت طويلاً عند إحساس الرجل وأبعاد حاجتنا الإنسانية جميعاً للمؤانسة والحديث، وأدركت أن مأساته عظيمة وأنه لا يبالغ ولا يتذمر، وأن البر وحسن المعاشرة لا يقتصران على توفير سبل الراحة، فالإنسان في حاجة دائمة إلى الكلام والتعبير، فالصمت يقتل كل المشاعر الإنسانية، ويؤزم جميع العلاقات الحميمة، وليس هناك ما هو أفضل من الكلام ليمنحنا الإحساس بالارتياح والتفاعل والقيمة المعنوية لحياتنا.

تلويح:

رمضان الفضيل.. فرصة طيبة للتواصل والتراحم والمؤانسة والبر والإحسان.. (ترجوهو دايما تامين ولامين).

[/JUSTIFY]

إندياح – صحيفة اليوم التالي