هنا أمدرمان
{ أنا من مواليد الخرطوم، ولم أخرج منها طوال مراحلي العمرية حتى الآن، وأحمل لها الكثير من الولاء والذكريات الحميمة، غير أن هذا لا يمنعني من أن أتمتع بالحياد والموضوعية الكافية لأعترف بأنها الضلع الأضعف في العاصمة المثلثة، رغم كل ما تتمتع به من ميزات وما يتمركز بها من مؤسسات ودواوين حكومية مهمة لجميع أهل السودان، ورغم الكم المهول من الخدمات الذي تمدنا به، ورغم أنها تحمل اسم العاصمة المعروف عالمياً، إلا أنها كجزء أصيل من العاصمة المثلثة تتميز بالتردي في كل شيء، ولا تصمد طويلاً في وجه المنافسة المعقودة بينها وبين نظيرتيها؛ بحري وأم درمان، والأخيرة تتسم بمضامين إيجابية تستحق أن نفرد لها مساحة اليوم كاملة.
{ فإلى جانب العبارة العزيزة الشهيرة (هنا أم درمان) التي تعرب عن معاني ثقافية وإعلامية موغلة في القدم، فإن أم درمان، التي يحلو لنا أن ندعوها العاصمة الوطنية، تحمل العديد من الملامح التاريخية والإنسانية القيمة، التي لا تخفى على أحد منذ إسهامها كمدينة وسكان في كتابة تاريخنا السياسي والفني والثقافي، ولا أعلم إن كان من باب المصادفة فحسب أن تحتوي أم درمان على كل المنابر الإعلامية والثقافية، سواء (الحيشان الثلاثة) أو ما عداها من مراكز للرأي والتمثيل والغناء وغيرها، كما أنها تحتوي على مواقع تاريخية معروفة من بوابات ومتاحف تجعل لأم درمان رائحة مميزة وعبقاً خاصاً يحكي عن نضالها وصمودها وصدامها.
{ كل هذا وغيره، جعل مدينة أم درمان مدينة خاصة في وجدان كل السودان، بدءاً بالإذاعة والتلفزيون، مروراً ببيت الخليفة والطابية، انتهاءً بقناة النيل الأزرق وغيرها من امتدادات الجمال في أم درمان، ورغم كل الحقب المتعاقبة والتطور الملحوظ الذي لحق بكل شيء لا زالت أم درمان تتشبث بأصالتها حتى على الصعيد المعماري، وتتميز غالبية أحيائها بمنازلها العريقة ذات الأسر الممتدة المتجاورة، ربما لهذا نجد إنسان أم درمان يتمتع (بالحنية) والأصالة والحرص البالغ على الأعراف والتقاليد، ولا تزال شوارع أم درمان تضج بالحياة طوال اليوم، ولا يزال أهل أم درمان متعاضدين متكافلين يعرف بعضهم بعضاً عن ظهر قلب، بحيث إنك لن تضل طريقك أبداً في أم درمان لأنك ستجد دائماً من يدلك على المكان الذي تقصده بخبرة تامة ودراية فطرية، وبينما تكاد الوشائج الاجتماعية تتقطع لدينا في أحياء الخرطوم وامتداداتها الجديدة نجد أهل أم درمان يتمتعون بكامل صداقاتهم الحميمة وجوارهم الطيب، فنجد الجيران كالأهل تماماً في السراء والضراء وما عداهما من تفاصيل الحياة اليومية الروتينية.
{ أقول هذا بكل تقدير لما عليه أهل أم درمان التي لم أختبر الحياة فيها ولكني لاحظت هذا القدر من التواصل وحسن الجوار الذي يتسم به أهلها في العديد من المناسبات والمواقف، إلى جانب تمتع النساء الأمدرمانيات بميزات خاصة تتجاوز حرصهن البالغ على المظهر الخارجي وكامل أناقتهن وزينتهن لتشمل إتقانهن لفنون الطبخ وصناعة العطور والالتزام التام بتقاليد وطقوس المراسم الكاملة لكل المحافل والمناسبات وكرمهن البيّن وحديثهن الشيق وميلهن الجماعي للتعارف والاندماج مع الغير، مع كامل استعدادهن لتقديم النصائح المجانية المتعلقة بكل ما يهم النساء من أمور حياتية وبسرد أنيق لحكايات واقعية زادت معدلهن المعرفي ومنحتهن الحكمة اللازمة ليكن نساء (قادرات) و(فالحات) يتميز بعضهن كذلك بفخامة في الصوت وضخامة في الوزن يعد لديهن ملمحاً جمالياً أنثوياً، إذ إن نساء أم درمان لم يعترفن بعد بسيادة القوام الإنجليزي الرشيق.
{ تلويح:
(أم در يا حبيبة.. يا غُنا يا قصيد…
ناس مليانة طيبة.. وقلوب مليانة ريد)
[/JUSTIFY]إندياح – صحيفة اليوم التالي