بحري والكنكان والتركين

قلت إن الخرطوم بحري مدينة حديثة جدا، ولهذا فهي أفضل مدن العاصمة السودانية المثلثة تخطيطا، وعندما عرفتها في شبابي الباكر (يعني حاليا في شبابي بعد الباكر بقليل)، كانت صغيرة وبالتالي كان أهلها يعرفون بعضهم البعض جيدا ويتواصلون ويتراحمون. وصحيح أن أهل أم درمان أكثر من اشتهر بتلك الخصال، ولكن هناك فرق، فأم درمان أكثر عراقة من بحري، ومعظم سكانها حتى قبل نحو ثلاثين سنة كانوا من مواليدها أباً عن جد، وأم درمان تشبه الولايات المتحدة في أمر واحد، وهو أنهما وعاء انصهار لأجناس وأعراق مختلفة، ومثل هذا الانصهار جاء في الولايات المتحدة بالدم بينما جاء أم درمان بروابط الدم وحقن الدم، ولأن المصاهرة بين الأعراق تؤدي إلى تحسين النسل (ويفسر هذا لماذا كانت بنات بريطانيا يتحرشن بي عندما ذهبت إليها طلبا للعلم ثم خبيرا أجنبيا كصحفي في بي بي سي، ولكن هيهات أن تملأ عيني امرأة غير سودانية)، فقد أنجبت أم درمان خيرة شعرائنا ورياضيينا ومطربينا وأشهر سياسيينا (لاحظ أنني لم أقل «خيرة سياسيينا» بعد أن أثبتت الوقائع أن سياسيينا ليس فيهم خير).
أهل بحري تعارفوا لأن المدينة كانت صغيرة، وكان أهم مرفقين فيها هما النقل النهري وأكبر منطقة صناعية في السودان (صارت اليوم في خبر كان)، وبالتالي كان معظم سكانها يعملون في هذين المرفقين، فكان التعارف والتآلف بينهم جزءا من «طبيعة العمل»، وكما هو حادث اليوم فإن الخرطوم كانت مكوشة على المرافق والمطاعم والمقاهي المهمة والكبيرة، ولم يكن في بحري ترفيه يذكر سوى سينما حلفايا والسينما الوطنية ولاحقا سينما الصافية، وفي ذلك الزمان كانت لعبة الورق المعروفة بالكنكان منتشرة وبائيا في كل السودان، والغريب في الأمر أن طلبة المدارس الثانوية على أيامنا لم يمارسوا من ألعاب الورق سوى «الوِست»، وبالمناسبة فمثل معظم أبناء جيلي كنت مهووسا بلعبة الكنكان بل كنت أجيد معظم ألعاب الكشتينة (الكتشينة بالمصري والجنجفة بالخليجي)، بدرجة أنني ما زلت أجيد بعض الخدع باستخدام أوراق اللعب كما الحاوي الهاوي، ولكنني أدركت أن العمر ثمين وقصير وتوقفت عن لعب الورق قبل سنين عديدة.
ولأن أهلي كانوا موزعين في مختلف أنحاء بحري، فقد جرت العادة أن نتوزع ونجتمع كل يوم جمعة في بعض البيوت للإفطار بقراصة القمح مع التركين (الملوحة)، والتركين مرحلة متقدمة وربما متأخرة عن الفسيخ لكونه يصنع من صغار السمك الذي يبقى مملحا لحين من الزمان ثم يتم غليه في نار شديدة اللهب حتى يتحول إلى عصارة تشم رائحتها العطرة وأنت على مسافة من محل إعدادها تجيز قصر الصلاة، وبعد التخلص من أشواك تلك الأسماك يتم حفظ العصارة في علب معدنية، ولحسن حظنا فإن البشرية لم تكن قد اخترعت الصدأ وربما كان الصدأ قد ظهر ولكنه لم يكن يؤثر على صحتنا وبطوننا الصدئة، المهم أن تلك العصارة تتعرض للطبخ مجددا بالبصل ويضاف إليها دقيق القمح لتصبح متماسكة إلى حد ما مع إضافة القرفة والحبهان (الدارسين والهيل بلغة أهل الخليج)، لتخفيف حدة أريجها العطر، وأقسم بالله أنني اعتبرها من أشهى الأكلات، رغم أن التخلص من رائحة التركين تتطلب ما يشبه غسل الجنابة، ولكنني أضربت عن تناوله منذ نحو 15 سنة بعد أن أدركت أن من يأكل التركين مرة واحدة يتناول حصته من الصوديوم (الملح) لسنة كاملة، وحدث هذا بعد أن سمعت عن مضار الأبيضين (السكر والملح) الفتاكة، وأضفت إلى القائمة من عندي أبيضين آخرين: الدقيق/ الطحين المغربل بحيث لا يبقى من قشر الحبوب شيء، والجنس الأبيض، لأن كل البلاوي التي نعاني منه اليوم قبل وبعد الربيع العربي، من تحت رأس الخواجات البيض «سوّد الله وجوههم كما سوّد قلوبهم».. بذر الخواجات فينا الفتن وتولى الحكام «الوطنيون» إكمال المهمة فسودوا عيشتنا بسجل إنجازاتهم السوداء.
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
زوجتى نوبية ( محسية ) و فى يوم عملت أكلة (الملوحة/التركين )و تناولتها مع بعض من اهلها – فأقسمت عليها اذا كررت ذلك مرة أخرى فى منزلى فسوف يكون آخر يوم لها فى المنزل- وكنت رحيما بها و لم أقل لها آخر يوم فى حياتها -و أنت يا أبو الجعافر تتناول التركين طوال خمسون عاما حسوما و مازلت على قيد الحياة – ياراجل أنت أعجوبة بالجد .
يا أبو الجعافر – أنت مثل ديناصور كومودو Komodo الموجود فى جزيرة أندونيسيا – طبعا ليس من حبث الشكل لكن من حيث قوتك و مقاومتك الرهيبة للسموم و الجراثيم- فهذا الديناصور يعتبر أقوى مخلوق فى الكون من حيث مقاومته للجراثيم والسموم حيث يمكنه أن يلتهم جثة ثور متعفنة و متحللة دون أيصاب بأى وعكة – و أنت بالمثل ظللت تأكل و تتناول سموم وجراثيم التركين طوال ستون عاما و مازلت حيا ترزق – ياخى لازم تسجل نفسك فى سجل جينيس للأرقام القياسية.
والله يا استاذ زعلتني شديد شديد بسبب اخر مقالك . لاني كنت باعتبرك من القلايل عفي اللسان او القلم بمعني ادق وانك بتحفظ الجميل الخواجات ديل ما شفنا منهم الا كل خير علي الاقل في السودان .
[SIZE=7]والله يا أبو الجعافر نحن لا زلنا مع لمة الملوحة .. حتي في المكاتب ومن الطرائف قالوا في واحد من الجزيرة وناس الجزيرة ما بعرفوا الملوحة المهم جاء عند ناس في الشمال وأكلها وهم نسابة لمن شبع خلاص طبعاً الريحة عجيبة جداً ( قال هسع أيدي دي ألا أقطعها ) …,. [/SIZE]