سابقة كرتي الإيجابية

استوقفتني عبارة (سابقة إيجابية) التي وردت في سياق تعليق وزير خارجيتنا الأستاذ علي كرتي على عملية إقدام السلطات المصرية على منع مجموعة حسنين المعارضة من إقامة منشط لها بالقاهرة.. ومصدر الدهشة والاهتمام يكمن في جرأة التعبير ودقته ودلالته.. فلم نكن في سابق العلاقات الأزلية بين البلدين نمتلك الجرأة لنسمي الأشياء بمسمياتها.. فعلى الأقل أن كلمة سابقة تدل على أن أنشطة كثيرة للمعارضات السودانية المسلحة منها والمصلحة قد جرت من تحت أحداث كورنشات القاهرة دون أن يلتفت إليها أحد.. فالذي لا تنتطح عليه عنزان هو أن مكاتب للحركات المسلحة والجبهات الثورية والتجمعات المعارضاتية قد اتخذت من القاهرة موطئ قدم للتبشير بأهدافها وأجندتها التي تتمحور جلها في عمليات إسقاط النظام السوداني! لهذا وذاك كان السيد كرتي لبقا وحصيفا ومنصفا، وهو ينفق للنظام المصري بمقدار ما أعطى ولا يزيد ولا يزايد وإن طمع في المزيد.. وأعظم دلالة في هذا التصريح هو أن السودان هذه المرة كما لو أنه يعول على ما بيده من كروت في لعبة الدبلوماسية المنطقية.. على أن الطريق الأمثل للبلدين يكمن في نقل العلاقة من مرحلة العواطف إلى درجة المصالح.. فالحبيبة مصر، وهي تنفق سبت حسنين، تنتظر ماهو أغلى وأعظم من الحسنيين.. تنتظر وقفة مشرفة وجريئة من السودان في شأن المياه على خلفية حيثيات سد النهضة وتكتل دول الحوض.. فالسودان الذي ترونه ضعيفا اقتصاديا ومحاصرا سياسيا هو بالأحرى قويا بمقدار ما يملك من فرص مواقف تكفي لترجيح كل الكفات.. المعارضة مقابل المياه.. فاللاعب الناجح كما كرتي يستطيع أن يوظف ما بأيديه من أوراق ليحقق بها مصالح لعبته دون أن يسلب الآخرين حقوقهم.. فالسودان قد امتلك الجرأة في الفترة الأخيرة ليعبر عن مصالحه بوضوح يحسد عليه.. فأكثر من مرة وعلى أكثر من لسان قد عبرنا على أن سد النهضة الإثيوبي نفعه أكثر من ضرره بالنسبة لنا.. على أن كل عمليات التخويف التي مورست بكثافة لم تزدنا إلا يقينا بجدوى إمداداته المائية الكهربائية.. أما عن فرية انهياره فقابلناها بجدلية السد العالي الذي أنشأ في فترة كانت عمليات بناء السدود أكثر تخلفا وبرغم مرور كل هذه السنين لم تحدث له تصدعات وانهيارات.. غير أن التدفقات المائية لم تزدنا إلا اخضرارا وإنتاجا، فنحن أمة مهما اجتهد السياسيون والمنظرون في ابتداع طرق إنتاج أخرى وبديلة لها إلا أننا بامتياز أمة النيل والزراعة والثروة والحيواتية.. وقديما قال أهلنا (الغريق ما بهددوه بمزيد من الغرق) وعلى رأى المثل (البتبلبل بعوم)، ونحن نجيد السباحة في النيل، ولكننا الآن فقط نتعلم بتصريحات السيد كرتي السباحة في بحور الدبلوماسية والسياسة وفق المصالح الاستراتيجية و.. و..
على الذين يمارسون السياسة باسمنا وتاريخنا، أن يدركوا أن أمة تجري كل هذه الأنهار من تحتها ليست هي أمة فقيرة.. على أن العالم ذاهب لا محالة إلى عصر المياه التي هي أغلى من النفط والغاز.. وفي التجارة نحن نمتلك اللحوم الحمراء التي يفترض ألا نقايضها (بالبلاستيك وأواني البايركس والكتشينة والشيشة)!
غير أني أدرك أن الدولة المصرية العميقة والأجهزة الاستراتيجية الأمنية التي تدير هذا الملف منذ ما قبل عهد مبارك.. باتت تدرك حيوية المياه والأمن في العمق السوداني، وأنا شخصيا أراهن على وعيها بأن دولة عميقة أخرى قد تشكلت هنا في جنوب الوادي خلال ربع قرن من حكم الإسلاميين.. على أن عمليات تفكيك هذه الدولة تكاد تكون مستحيلة في الوقت الراهن.. وتحضرني واقعة جديرة بالذكر في هذا السياق تتمثل في شهادة أحد الإخوان العرب ممن يشتغلون بقراءة الاتجاهات الاستراتيجية.. بأن أعظم إخواني مصري ممن شاهدناهم على مسرح ثورة يناير المصرية هو دون الإخواني السوداني علي عثمان محمد طه فضلا على الأسطورة حسن الترابي!
على أن مصلحة الشعبين الشقيقين التي يفترض ألا تخصع لطارئات الأنظمة يفترض أن تبنى بوعي وفق المصالح المشتركة..
[/SIZE][/JUSTIFY]ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي
[EMAIL]Malazat123@gmail.com[/EMAIL]

