سياسة التفقير
:: فالواقعة لاتزال في الخاطر..قبل ثلاث سنوات، وكان برد الشتاء يصدر شخيراً، قصدنا منزل أحد أعمامي بالجريف غرب ..وهناك، بمنزل العم، طرق أحدهم باب الدار فخرج إليه العم، ثم غاب زمناً وعاد (دامعاً).. فتوجسنا وسألنا، فحكى الواقعة : جاري هذا – وأشار الى الجدار الفاصل بينهما- يعمل معلماً باحدى مدارس الأساس، ومرضت زوجته وأرهقته فواتير التشخيص والدواء، فعرض لي البارحة تلفازه المستعمل بسعر زهيد.. وافقت على الشراء ودفعت له السعر على أن يأتي بالتلفاز لاحقاً..!!
:: واليوم جاء حاملا التلفاز ومصطحباً أحد أطفاله، ولكن في لحظة إستلامي للتلفاز، خاطبني الطفل سائلا : ( يا عمو ممكن اجي احضر معاكم المسلسل ؟)، فأظلمت الدنيا في وجهي وتراجعت يدي لاإرادياً، و الحمد لله أقنعت الجار – بعد تعب – بأني لست بحاجة الى التلفاز و(أنوالحالة واحدة واعتبرو هدية لي ولدى دا)، ولذلك تأخرت عنكم.. حكاها العم ثم ردد بارتباك : ( شيلو اشربو الشاي دا، سكركم كيف؟ و..)، ليشغلنا عن الحدث المحزن، ولكن لم يفلح.. فالدمع لم يكن قد جف، وقد إنتبهنا، و..(تألمنا)..!!
:: ومنذ ذاك الشتاء، يلج مشهد الطفل وهو يتوسل عمي – يا عمو ممكن اجى احضر معاكم المسلسل؟ – في الخاطر حين أمر بالأسواق الشعبية، وأجد فيها من يعرض أشياء مستعملة من شاكلة : تلفزيون، رسيفر، طبق فضائي، دولاب ملابس، ثلاجة و..و.. وتلك أشياء ليست ذات قيمة لمن ينظر اليها بقصر النظر و اللامبالاة من (برج عال)..ولكنها ذات معنى و قيمة، وتخلف فراغاً عريضاً ومؤلماً في الأسرة حين تقاوم بأثمانها بعض (ضنك الحياة).. لقد كانت الأسر تستخدمها – وتستمتع بها – قبل أن يصيبها رهق الحياة و يرغمها على عرضها للبيع ب (أي ثمن )، لتعيش بثمنها بعض اسبوعا أو لتداوى بقيمتها أحد أفرادها..!!
:: ينزعها رب الأسرة – أو ربتها- نزعاً من عيون الصغار وقلوبهم التي تعلقت بها، ويخرج بها الى السوق بقلب حزين، ويكون لسان حاله عند النزع : ( إن شاء الله لمن الظروف تتحسن بجيب ليكم أحسن منو)، وتكون غصة الألم – في تلك اللحظة – قد بلغت الحلقوم ولكن ما باليد ( حيلة)..وهي ليست أغلى من (الروح والشرف)، إذ بما كانوا يملكون يسترون حالهم..أو هذا هو حصاد سياسة عبد الرحيم حمدي المسماة مجازاً ب ( سياسة التحرير).. لقد عاد حمدي ليدافع عنها صباح أمس بمنتدى حماية المستهلك..بل، ويطالب بالمزيد منها وذلك بفرض ضريبة على البنزين ثم بتحرير سعر الدولار أيضاً، ربما ليتجاوز ماهو عليه في السوق الموازي حالياً ( 9,5 جنيهات).. يتكلم حمدي وكأن كل الناس في مستوى ( ثراء حمدي)..!!
:: وما يسميها حمدي بسياسة التحرير هي التي زادت الفقراء فقراً وأثرياء السحت ثراءً فاحشا، وجردت السودان من (طبقته الوسطى).. وصار حال الشعب كما الحال باحدى دول شرق أسيا طبقة طفيلية تحتكر كل شئ وأخرى (لا تملك شئ).. فأي سياسة تحرير هذه وبرلمان البلد عاجز – منذ أكثر من دورتين – حتى عن إحصاء الشركات الحكومية، وناهيك عن التخلص منها، رغم مسلسل القرارات الرئاسية والتوجيهات الوزارية؟.. وأي سياسة تحرير هذه وسياسة وزارة المالية لا تتقن من فنون الإدارة والانتاج غير حظر الاستيراد ورفع الدعم عن السلع و زيادة الجمارك والضرائب؟..سياسة التحرير لاتعني أن يمتلك النافذ في الحزب وسلطته إذاعة خاصة ومنافسة لاذاعة أمدرمان كما ( إذاعة حمدي)، أو صرافة خاصة ومنافسة لبنك الخرطوم كما (صرافة حمدي).. فالتحرير هو أن ينتج ويتاجر ويصدر ويستورد جميع أهل السودان ويتنافسوا فيما بينهم في الهواء الطلق بالجودة والسعر ..وهذا ما لن يكون في زمان يطمع فيه النافذون بالحزب وسلطته على ( إحتكار الهواء)..!!
[/JUSTIFY]الطاهر ساتي
إليكم – صحيفة السوداني
[email]tahersati@hotmail.com[/email]
لاحول ولاقوة الا بالله …اللهم عليك بالظلمة …اللهم عليك بالظلمة
اللهم عليك بالظلمة