خواجة بس أسمر جداً
كان العمل في السفارة البريطانية في الخرطوم محطة مؤقتة في مسيرتي كمدرس لغة إنجليزية، وكان الالتحاق بالسفارة يعني الانتقال من مرحلة «سروال ومركوب»، إلى درجة من الخوجنة والتفرنج (مركوب تعني الشيء الذي يتم الركوب فيه أو فوقه، ولكننا في السودان نعني بها الحذاء الجلدي المصنوع محليا، وربما جاءت التسمية في عصر كانت الأقدام فيه وسيلة الانتقال الوحيدة لمعظم السودانيين وبالتالي كانت الأحذية ركوبتهم)، وصار لزاما علي اقتناء بضع كرافتات، واشتريت ثلاثا منها، وجلست أمام المرآة في البيت أحاول لفها حول عنقي، وبعد عدة محاولات فاشلة كانت الكرافتات الثلاث قد أصبحت غير صالحة للاستخدام بعد أن تكرمشت وتقرمشت وتعجنت، فاضطررت الى شراء ثلاث أخريات واستعنت بصديق ذي خبرة في مجال ارتداء ربطات العنق، فربطها لي وظلت محافظة على تلك الربطة حتى نهاية أمد صلاحيتها بعد نحو عشر سنوات، وبالمناسبة فإلى يومنا هذا أعرف فقط طريقة واحدة لربط الكرافتة، ولا رغبة عندي في تعلم طرق أخرى لربطها، لأن الكرافتة تذكرني وأحس وهي حول عنقي بأنني مخنوق.
وكان لا بد من نقلة كبيرة في مجال الأناقة لأنني كنت مطالبا بحضور كل الحفلات العامة للسفارة، وحدث ذلك بسلاسة، لأن راتبي كان ضخما (فعلا، وليس الضخامة التي توهمتها عندما تسلمت أول راتب لي كمدرس بالمرحلة الثانوية 45 جنيها)، وصار من حقي دخول أجعص دكان في السوق الإفرنجي الذي كان مجرد المرور في شوارعه من قبل، يجعل ركبي تصطك خشية أن يخرج علي أحد أصحابها الخواجات أو الأرمن: أنت شنو جابك هنا يا زول.. انكشح وانقرع وافرنقع، واشتريت حذاء إيطاليا بخمس جنيهات (وكنت أستأجر وقتها بيتا به ثلاث غرف بـ15 جنيها في الشهر اي أن الحذاء بأجرة غرفة واحدة)، وصرت أجلس «عادي» في مقهى أتينيه وحولي معارف من قدامى خريجي جامعة الخرطوم أو الشخصيات العامة التي عرفتها بحكم عملي في السفارة، وكنت أحرص على الجلوس واضعا رجلا فوق رجل حتى يبلغ الحاضر أنني أرتدي حذاء من الجلد من محلات بون مارشيه، الذي يا ما سالت ريالتي وأنا أطالع الأحذية المعروضة فيه في فترينات زجاجية، أما الطفرة الكبرى فقد كانت في مجال الخدمات الطبية، فقد أهلني منصبي لتلقي العلاج بالمجان في أول مجمع عيادات في السودان (دار الشفاء) وكان مملوكا للوزير الراحل عبدالحميد صالح، وأحصل على الأدوية من أجزخانة (صيدلية) لندن في المحطة الوسطى في الخرطوم (عندما أصيب رئيسنا الراحل جعفر ونميري بلوثة اشتراكية وصار يؤمم ويصادر الشركات والممتلكات من طرف استيقظ الناس ذات صباح ليكتشفوا أن أجزخانة لندن مفتوحة ولكن بلا إضاءة، واتضح أن أصحابها تخلصوا من محتوياتها بطريقة ما وفلسعوا اي هربوا من البلاد بليل).
ولكن العمل في السفارة سقاني مقلبا مهولا، فقد طلبت الأمم المتحدة مترجمين وجلست للاختبار المعلوم ونجحت واستدعوني مع اثنين آخرين للإنترفيو، فقررت عدم الذهاب: لنفترض أن الاختيار وقع علي، هل من المعقول أن أذهب وأعيش في مدينة «مرعبة» كنيويورك؟ وتأكد لي أنني كنت خيارهم الأول لأنه ورغم عدم مثولي أمام لجنة الانترفيو في الوقت المحدد، اتصلوا بي مجددا وحددوا لي موعدا آخر، فلما قلت لهم إنني غير راغب في الوظيفة أدركوا (ربما) أنني أعاني من اضطراب عقلي، ولو قبلت بتلك الوظيفة لكنت اليوم أتقاضى نحو 15 ألف دولار شهريا كراتب عن التقاعد المبكر وأنا في بيتي في مانهاتن، ومن عجائب المقادير أنه وبعدها بنحو 4 سنوات أعلنت الأمم المتحدة حاجتها الى مترجمين وذهبت إلى مكتبها في الخرطوم لتسلم أوراق تقديم الطلب، وذهبت الى مكتب صديق لملء الطلب فحدثني عن أن أرامكو تبحث عن مترجمين وانتهى الأمر بقبولي في أرامكو وتمزيق أوراق الأمم المتحدة.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
زي ما قالوا أهلنا زمان تاباها مملحة وتأكلها بي صوفة