يوم.. رحيلك
نوافذ الحزن تشرع من جديد لتسرق مني روحاً.. وتتركني أتجرع مرارة ذلك الكأس، تتركني في زاوية خاوية من كل مظاهر الفرح.. تجردني رداء التواصل مع من أحببت.. مضجرة هي الحياة حين تكون محطة وداع لكل جميل عشناه ذات يوم..
جدِّي..
صورته لا تبارح مخيلتي الآن.. تحولت إلى ذكرى بلا امتداد.. فجأه.. ودون سابق إنذار يعلن وبشفافية مطلقة أن وقت رحيله قد دنا.. وبابتسامات فرحة يرى حالة في ما هو ذاهب إليه.. ويطلب منا الثبات والقوة ويُحدث أن هناك قبائل وعشائر سوف تأتي، لذا وجب علينا الاستعداد بكل الثبات والتيقظ..
ثم يدق ناقوس السفر إلى اللاعودة.. رحمك الله يا جدي.. فرؤياك قد تحققت وصدق ماحدثتنا عنه..
لكم جعلني أقف متأملة ماذا قدم لنا قلبه الذي يقطر طيبة وكرما.. أخذ من حياتنا كل الألم والمعاناة والحرمان..
كان طول عمره يسعى إلى إسعاد من حوله بكل ما أوتي من قوة.. وعلى الرغم من مصارعته للمرض كان في داخله عالم خصب من العطاء لم يقابلني مثيله.. كان محبا للكل وفاز بمحبة طوائف لاحصر لها من الناس.. فقد كان بوابة مشرعة أبوابها لكل قادم ولكل عابر ولكل قاصد..
يا جدِّي
(أبو القاسم الشريف)
يا أبوي..
.. (كما اعتدنا مناداته جميعا) وكما سنعتاد على الحرمان من محنة تلك الكلمة..
.. غبت وغاب ذلك الهلال الرفيع.. وغرقت العيون في النحيب وفيض الدموع.. انفطرت القلوب واندلقت الأحزان وليس هناك شاهدا بين الجرح والنزيف سوى الألم..
اختفى ذلك الحبور وركد في أعماق عاثره.. ودعنا زهر الربيع وعانقنا ذكرى الرحيل والفراق.. رحل عن هذا الوجود مخلفا أوجاعا تتكبدها الأحشاء.. توارى ظله تحت التراب والروح لاتزال تخفق في كل مكان ولايزال طيب أنفاسه يتسم في قلوب الأوفياء ومحياه كنور يرف في السماء.. إنه عاشق الخير سيظل في قلوبنا كفراشة الأمل تعبق لها الورود.. ستظل طيور الفجر تشدو له بالدعاء.. سيظل في عيوننا ذاك الهمام المتواضع الذي غادر هذا العالم مطمئن النفس إلى جوار ربه..
أبوي..
والله إن قلبي يبكي على الرغم من مضي الأيام، ولا زالت الروح تئن على غيابك يأغلى الأحباب.. جراح تنزف بداخلي ودموع تذرفها عيني أسفا عليك أيها الرائع النبيل..
أبوي..
رحلت عنا وغيبتك الأقدار.. خطفك الموت منا سريعا فتألمت قلوبنا وتألمت الأزهار والأشجار والأطيار وحتى قساوة الصخر والأحجار..
أبوي..
شعرت بغربة موحشة.. وغصات مؤلمة.. اجتاحت روحي بقوة.. موتك أيها السامي قتل بداخلي إحساسي وجعلني في غيبوبة لم أنهض منها إلى اليوم.. كنت معي.. كنت بجانبي.. تسأل عني وتتفقد أحوالي وتحمل همي.. اشتاقت إليك روحي.. اشتقت إلى همسك وصمتك وإلى دعواتك وتبريكاتك.. كنت ملاذ الكثيرين وكنت محطة زاد للكل حين تضيق بهم الأيام وتحاصرهم الأتراح..
أبوي..
رحلت.. ومرة أخرى فاتني حتى الوقوف مودعة جسدك الطاهر.. مثلما حرمت توديع جسد أبي.. وكأن القدر يأبى على أن أحظى بهيبة تلك اللحظات..
رحلت أنت وأبي ولا زالت لوحات إبداعكم معلقة رهن ذاكرتي.. مغروسة في دم الوجع بأوردتي تقطر دموعا مالحة مشبعة بمرارة الحزن.. مليئة بالحسرة على أرواح غطاها التراب دون أن أراها..
أبوي..
يا سيد هؤلاء الرجال.. برحيلك إنهار العالم من حولنا وإنهارت الدنيا بما فيها وانهمرت تلك الدموع..
برحيلك هاج موج البحر وعلا هديره وانشقت كل المحيطات.. وانحسرت المياه في بقع صغيره
برحيلك.. توقفت الأرض عن الدوران ودارت عكس الاتجاه وترنح الناس وأصبحو كالسكارى..
برحيلك.. هطلت أمطارا غزيره وأغرقت شوارع المدينه والمنافذ أصبحت سدودا حصينة..
برحيلك.. أبكيتني وأبكيتني وأبكيت كل من حولي وألبستني ثوب اليتامى وحرمت قلعة الأبوة الحصينة
برحيلك.. جعلتني أسطر لك هذا الرثاء بدلا من أن أكتب إليك أجمل القصائد وأصبحت كل كلماتي حزينة..
برحيلك.. أشرقت الشمس من مغربها وغاب القمر وانطفات النجوم وخيم سواد الليل باكرا..
برحيلك.. أدمعت عيناي.. وأنهكت قلبي وهدمت آمالي وحطمت كل أفراحي..
برحيلك.. شاءت الأقدار ولا اعتراض على مشيئة الرحمن.. أسكنك الله.. (يا جدي).. أعالي الجنان ومنح قلبي المتعب مزيدا من الصبر والسلوان ويجمعني وإياك في دار الخلد والبقاء والأمان..
أبوي..
لن أنساك أبدا وسيظل حبي لك (ناي) يعزف بداخلي دوما أحلى وأجمل الذكريات..
فوداعا لظل لا لروح وذكرى.. وداعا لطيف لا للأنفاس والبسمة.. أمانة استردها البارئ بأجمل ما يتمناه المؤمن من دار الفناء إلى دار الخلود والرحمة والبقاء..
رحمك الله يــــا أبوي..
أنـــه
كل الأحزان تعبر بوابة النسيان..
ماعدا الحزن على فراق الأحبة..
(أرشيف الكاتبة)
كلمات على جدار القلب – صحيفة اليوم التالي