جعفر عباس

دخول التلفزيون والهروب منه

[JUSTIFY]
دخول التلفزيون والهروب منه

وجدت العمل في التلفزيون ممتعا، فقد كان التحدي كبيرا، لأن معظم البرامج كانت تبث حية، بسبب الكلفة العالية للتسجيل في أشرطة فيديو كان عرض الواحد منها خمسة سنتيمترات، وعشنا وشفنا تصوير أفلام بالفيديو بدون أي شريط، فالتليفون الجالس إلى جواري في هذه اللحظة به لقطات فيديو ذات جودة أعلى من تلك الصور التي كنا نبثها للمشاهدين مباشرة أو بعد تسجيلها، والممتع في التلفزيون والصحافة عموما عدم الرتابة، ففي كل يوم يأتيك جديد أو عليك أن تأتي بجديد، وطفش الناس من التلفزيونات الرسمية، لأنها تلت وتعجن في نفس الكلام الخارِم بارِم، وهو الكلام الذي بلا أساس أو رأس، الغرض منه بلغة المصريين «أكل العقول بحلاوة»، اي الاستكراد والضحك على العقول، ولأن العيال كبرت والعقول تفتحت فقد صار بإمكانك أن تشتري جهاز استقبال بث فضائي بسعر أكثر من معقول لتستقبل مئات القنوات، أو تفتح الإنترنت فتكتشف حقائق عتمت عليها قناة بلادك الرسمية، ولماذا كل هذا التعب وهاتفك الذكي أذكى منك ومن الحكومة وينقل إليك الخبارات (جمع خبر في العامية السودانية على وزن عصيرات كجمع عصير في السعودية).
ورغم أنني التحقت بالتلفزيون السوداني في عصر ديكتاتورية جعفر نميري، فإن القواعد التي أرساها جيل مؤسسي التلفزيون كانت سائدة، وبالتالي كان التدخل الحكومي يقتصر على نشرات الأخبار كما هو حال جميع التلفزيونات الرسمية، حيث لا بد أن يتصدر النشرة خبر عن رأس الدولة، ولو كانت تتعلق بعيد ميلاد ابنة سائق سيارته، وأسوأ ما في المجال الإعلامي أنه يصيب كثيرين من العاملين فيه بوهم «العظمة»، فتجدهم يمارسون العنطزة ويمشون في الشوارع والأماكن العامة وهم يحسبون أن كل الأعين تلاحقهم بالإعجاب، فتراهم يوزعون ابتسامات بلاستيكية على كل من يمر بهم، ولكن المجموعة التي كانت تعمل في التلفزيون السوداني في أواخر سبعينيات القرن الماضي كانت متجانسة ويرتبط أفرادها بمحبة صادقة، فقد كنا نتشارك الوجبات، ونعود مرضانا ونعزي كل مكلوم بفقد عزيز جماعيا، وأذكر أن زميلا فقد ابنه الوحيد في أول مساء في حادث مروري، فدخلنا الى مكتبة الفيديو واختار احد الزملاء شريطا كان مكتوبا على غلافه الخارجي أن مدته ساعتان، فقمنا بتشغيل الشريط وخرج جميع العاملين في محطة التلفزيون لأداء واجب العزاء، ولو اقتحم شخص يعرف ابجديات العمل التلفزيوني المبنى وأذاع بيانا يلعن فيه خاش الحكومة أو أذاع البيان رقم واحد زاعما أنه استولى على السلطة لما وجد من يوقفه، ومن سخرية الاقدار أن الشريط الذي وقع عليه الاختيار حتى يغطي غيابنا لحضور مأتم والحزن الصادق يغمرنا كان لحفلة أم كلثوم في المسرح القومي في أم درمان حيث غنت للمرة الأولى أغنية «هذه ليلتي وحلم حياتي».
وكل بضع سنوات ظلت الوجوه المألوفة لدي في التلفزيون السوداني تختفي، فقد هاجر المذيعون والفنيون، وكنت ضمن فوج المهاجرين الأوائل، ليس بسبب ضيق العيش (بمعنى شح المال)، ولكن بسبب التضييق المتواصل علي من قبل الأجهزة الأمنية، فبما أنني كنت من أرباب السوابق بمعنى أنني كنت سجينا سياسيا، وكان شقيقي الأصغر محجوب مثلي في هذا الصدد، فقد كان بيتنا يتعرض لغارات تفتيشية من حين إلى آخر، ولما جاءتني تأشيرة السفر وتذكرة الطائرة للعمل في أرامكو بالسعودية، لم أنطط من الفرح بل بكيت بحرقة لأنني سأغادر وطنا أحب كل شبر فيه وأحب أهله، وأقولها بكل صدق: لم أكن حزينا ولا خائفا يوم قادوني الى السجن، ولكن وأنا أتوجه نحو الطائرة كنت كمن يسير في جنازة جماعية لكل أحبابه ولم أحاول إخفاء دموعي.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]

‫3 تعليقات

  1. سيب الحركات دى يا ابو الجعافر والله كنت تنطط من الفرح اغتراب وكمان فى ارامكو سنه يا ارامكو

  2. صباحك خير إستاذنا العزيز .. والله التلفزيون والقنوات السودانية أصبحجد بطفش الناس من اللك والعجن… والله أقول ليك حقيقة إشتريت تلفزيون 21 بوصة قلت أخش العولمة مع الناس مع أنو ظروفي أكثر من صعبة المهم بعد أقل من سنة التلفزيون باظ ( تعطل ) والله حمد الله وشكرته علي ذلك .. وركنته في المخزن .. للأسف وبقول للأسف الشديد أخواني ما ريحوني ما عندك تلفزيون ما قادرة تشتري البيت صاني البيت مملل .. المهم بعد ما أكلوا لحمي أضطريت أشتري تلفزيون والله بالأقساط بمبلغ ثلاثة مليون ومأتين وخمسون وأقول للأسف كثيرة عليه الملائين لان والله ما متابعة أي برنامج تخيل بحضر بس الرقص الهندي يوم الجمعة والسبت من كل أسبوع .. وبقية الايام.. بفتحوا أصحاب القنوات الهندية والمسلسلات الهنديو والتركية وهلم جراء .. ولمن بالغلط افتح قناة سودانية ألقي ليك درامية ( تطمم البطن ) واقول جارية … وده الحال .

  3. ولكن وأنا أتوجه نحو الطائرة كنت كمن يسير في جنازة جماعية لكل أحبابه ولم أحاول إخفاء دموعي.
    سلامات يا ابو الجعافر,الكلام دا كان زمان,لكن الان بقينا دايرين يجدعونا جدع من السودان وبدون طيارتك البكيت منها دي , وبضحكات تجلجل.