أبشر الماحي الصائم

لعنة الذهب


[JUSTIFY]
لعنة الذهب

ورث من أبيه مهنة الأجداد التي تتوزع ما بين الزراعة وتربية الحيوانات.. كان كل همه أن يستيقظ مبكرا ليسارع بعد فريضة الفجر إلى زريبة البهائم الملحقة بالمنزل من الجهة الخلفية ليحلب لبن الصباح (بالجردل الكبير).. حتى إذا ما فرغ من جلسة شاي الصباح (اندلى على التحتانية)، حيث المزرعة والحقول وجنينة النخيل التي لم تنحصر قيمتها في الإنتاج السنوي من التمور فحسب.. بل ظلت تمثل له ولأسرته بعض عز وتاريخ وفخار.. وتمضي الأيام على هذا النحو والحال مستور والحمد لله رب العالمين و… و…

كانت لحظة فارقة في حياته يوم أن قرر الالتحاق بمواكب المعدنيين التقليديين.. فبدلا من أن ينزل للنيل والتحتانية، فقد نجع للضهاري والصحاري مدشنا حياة جديدة لا تقاوم إغراءاتها.. ممنيا نفسه بكيلوهات من هذا المعدن النفيس الذي غير في أيام معدودات حياة الكثير من أقرانه.. من الذين امتلكوا البكاسي واشتروا منازل في المدينة وغيروا أثاث بيوتهم وانقلبت حياتهم رأساً على عقب و… و..

لم يمض طويل وقت حتى بدأت الدنيا والحظوظ تفتح أبوابها أمام صاحبنا.. بدأت مسيرته الذهبية بأوقيات ثم لم تلبث أن لامست الكيلوهات.. فأصبح حديث تلك المضارب.. فما من معدن متلطع إلا وتمنى أن يكون في صحبته و.. و..

وبدأت الأزمة الحقيقية يوم أن امتلك صاحبنا مليارات من الجنيهات لم يكن مهيأ لها ولا يعرف ماذا يعمل بها.. اتجه في بادئ الأمر إلى المنزل وكانت أول ضحاياه (سدادة أثرية قديمة) على بهو المنزل تخلص منها مقابل (باب راجمة)، ولم يطرف له جفن.. ولعمري أن المرجوم في هذه الحالة هو التاريخ ولا شيء غير التاريخ.. ثم كانت الضحية الثانية بامتياز هي حماره المتوارث، الذي ينتمي إلى سلالة نادرة جدا.. رأى أن منظره أمام الباب الراجمة ربما يحرجه أمام أصدقائه الجدد ممن ينتمون لرباعية عكير الدامر

ود بيت المحل ماتكوس معاه موده

ما تنغش بي رزقو عمرو الحجر ما إنكده

كل يوم العرق لي اصلو ياخد مده

مو قضاي غرض ود الإيدو خاتيه المده

كانت الخطوة التالية بامتياز هي التخلص من حظيرة الحيوانات بما فيها من ضأن وأغنام وأبقار.. ومن ثم كسبت المستوردات الهولندية للألبان المجففة مستهلكا جديدا.. ثم احتشد المنزل الريفي بالمبردات والأجهزة الكهربائية من كل جنس وشركة ولون و.. و.. ثم أضحى غير مؤهل نفسيا وأدبيا للنزول للتحتانية لممارسة حرفة الآباء والأجداد التي هي الزراعة.. فحاول في بادئ الأمر أن يستأجر عاملاً ليقوم مقامه في الحقول.. غير أن بريق المعدن النفيس لم يترك شخصاً قادراً على حمل الطورية إلا والتحق بركب الباحثين عن الثراء في تلك الكثبان والفيافي.. هكذا فقدت الحقول والمزارع شغيلتها وفقدت الحظائر ماشيتها وفقد الريف نضاره ومروءته و…

وفي تطور آخر قرر صاحبنا مغادرة القرية التي لم تعد قادرة على تلبية حاجيات ومتطلبات حياته الجديدة.. فخسرت القرية شابا منتجا، ولعمري لم تكسب المدينة في المقابل غير مستهلك شرس ينفق الفلوس بسهولة كما اكتسبها سهلة.. فخسرت القرية والمدينة والزراعة والثروة الحيوانية والبلاد خسارة فادحة..

مخرج.. هذا المقال مطروح على أهل التخطيط الاستراتيجي وأهل الفكر وأصحاب الأطروحات، لكي ينتجوا من الأفكار والرؤى والخطط ما يجعل ثروة الذهب تصبح نعمة وليست نقمة.. ربحا وليست خصما على الريف والإنتاج والأخلاق والتماسك الوطني.. والله المستعان..

[/JUSTIFY]

ملاذات آمنه – صحيفة اليوم التالي
[EMAIL]Malazat123@gmail.com[/EMAIL]