مغامرة حسبتها محسوبة
اعتبارا من اغسطس عام 1994 عشت أسوأ عامين في حياتي العائلية، فمن دون أن استشير أحدا قدمت لوظيفة في تلفزيون بي بي سي العربي، وجلست لامتحان تحريري مطوّل واجتزته، ثم خضعت لمعاينة/ انترفيو، وبعدها بنحو أسبوع وصلني عقد العمل، وكان الراتب الذي عرضوه علي بعد خصومات الضرائب والضمان الاجتماعي، أقل من نصف الراتب الذي كنت أتقاضاه من مؤسسة الاتصالات القطرية (كيوتل)، آخذا في الاعتبار أن كلفة المعيشة في لندن كانت وما تزال ضعفي نظيرتها في قطر، وبعد أن استوت الطبخة حدثت بها زوجتي وعيالي، فعارضت المدام الفكرة بالطول والعرض، بينما رحب بها العيال، والغريب في الأمر أن المدير المالي لكيوتل وكان إنجليزيا يدعى أوبري كلوك، قال عندما أخبرته باعتزامي الالتحاق ببي بي سي براتب قدره كذا وكذا، صاح في وجهي «آر يو كريزي؟» هل أنت مجنون لتضحي براتب بلا ضرائب ومسكن مجاني كي تذهب الى لندن وتعيش على الكفاف؟ ولكنني كنت كريزي فعلا معظم مسيرتي المهنية، وأحب النطنطة من موقع عمل إلى آخر، فما أن أتقن عملا ما ويصبح أداؤه روتينيا حتى يسري الملل إلى قلبي وانتهز اول فرصة للانتقال الى موقع آخر داخل نفس جهة العمل أو الى جهة أخرى.
وكانت أثقل المهن التي مارستها على قلبي هي الترجمة، فرغم أنني اكتسبت سمعة طيبة في قطر والإمارات كمترجم تحريري وفوري، إلا أنني لم أجد متعة في ترجمة اي نص «تجاري»، وقد ترجمت نصوصا محدودة جدا ووجدت فيها عنصر الامتاع لأنها كانت بلا مقابل، ورغم أن كيوتل أعفتني من مهام العلاقات العامة والترجمة وأوكلت إلي عملا ذا طابع إداري، فإن إدارتها العليا كانت تعتبرني «باشكاتب» المؤسسة، وكان العمل في بي بي سي يمثل بالنسبة إلي نقلة مهنية تعيدني الى مربع الاعلام بعيدا عن الصحافة الورقية التي أرهقتني بالسهر، وخاصة أنه كان قد سبق لي دراسة الانتاج البرامجي التلفزيوني في لندن في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وكنت – ومازلت- مدركا أن العمل التلفزيوني أكثر فنون الإعلام امتاعا لأنه يتطلب كل المهارات المطلوبة في الصحافة المطبوعة والاذاعة ويزيد عليها عنصر الصورة الحية او الصامتة، والصورة في احيان كثيرة أبلغ من الكلام كما أنها لا تكذب (كانت لا تكذب حتى اختراع الفوتو شوب وخدع التركيب أثناء المونتاج).
وتجاهلت كل الأصوات المعارضة لالتحاقي ببي بي سي وسافرت الى لندن، بعد انقطاع عنها دام نحو 14 سنة، وخلال يومين أو ثلاثة أدركت أن لندن التسعينيات غير لندن السبعينيات، فمقر بي بي سي كان في وايت سيتي في منطقة شبردس بوش (بالنسبة إلى معظم العرب هي شبربوش) ذات السوق الشعبي الشهير الذي تباع فيه البضائع المضروبة، ولأن المنطقة تتحول إلى غابة فور غروب الشمس (بوش bush تعني دغل أو غابة)، يتحكم فيها اللصوص والبلطجية كانت بي بي سي توفر لأي صحفي يغادر مبناها بعد العاشرة مساء سيارة خاصة توصله الى منزله، رغم أن محطة قطار الانفاق كانت على بعد خطوات من المبنى ورغم أن القطارات لم تكن تتوقف عن نقل الركاب قبل الحادية عشرة ليلا، وكان من أول الدروس التي تعلمتها في لندن التسعينيات عدم مغادرة البيت بعد الغروب إلا من وإلى العمل، وعندها فقط أدركت قيمة للدوحة كانت غائبة عني: الأمان، فلا أحد في الدوحة أو المنامة أو مسقط يعتدي عليك من دون سبب إذا وجدك تسير ليلا في شارع عام.. لا أحد يخطف حقيبتك أو هاتفك أو يشتمك، وكل هذا جعلني أشيل هم استقدام عائلتي وتوزيع عيالي على المدارس: يا حليل الدوحة والباص الذي يأخذ العيال ويعيدهم من وإلى أمام باب البيت بالثانية والدقيقة، ولكن لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]
يا ابو الجعافر يا مرطب