جعفر عباس

لبنان في عصر «شهادة» الثعبان


[JUSTIFY]
لبنان في عصر «شهادة» الثعبان

«بسم الله الرحمن الرحيم، بتاريخه أدناه بعنا شقفة الأرض التي تخصنا في محلة الزعرورة، إلى راهبات طايش، طولها مائتين ماسورة بماسورة أبو طنوس، يحدها شرقا التنور الذي كانت تخبز عليه أم شلهوب، وغربا وكر الحية السودا، التي عقست بو شاهين عملول، وشمالا الطيونة المعششة فيها الدعويقة وجنوبا مطرح اللي كان يقيِّل عنزاتو بوالياس. تمت الجهات الأربع، وقبضنا الثمن ربعية زيت ورغيفين كار، والبيع تم برضانا ورضا الرب والخاين الله يخونه، والشقفة صارت تخصه يتصرف فيها بحرية. صرمايته بيقلعها ويلبسها على خاطرو. سنة ألف وستة ماية وأربعة وسبعون «1674»، الشاهد: بوطنوس كاتبه: المير موسى».
هذا صك بيع أرض لإقامة دير للراهبات في الزعرورة بلبنان، وإليك ترجمة بعض مفرداته: الماسورة كانت وحدة قياس لتحديد مواقع الأراضي، وحدود الأرض المباعة غربا هو الموقع الذي «عقست»/ لدغت فيه الحية السوداء السيد بوشاهين عملول، أي العام قبل الفائت، أما حد الأرض شمالا فهو الطيونة (نوع من الأعشاب) التي تعشش فيها العصافير المعروفة باسم «الدعويقة»، بينما جنوبا هو المكان (المطرح) الذي كانت عنزات بو إلياس تمارس فيه قيلولتها، وكان ثمن الأرض ربع صفيحة زيت (ربعية) ورغيفين كار، وبهذا صارت الأرض تحت تصرف المالك الجديد يقلع صرمايتو (حذاءه) ويلبسها بخاطرو (له الحق في التصرف فيها بالطريقة التي يراها).
عمر هذا الصك 329 سنة، فانظر جماله وبساطته، وانظر مطاطية حدود قطعة الأرض المباعة: المكان الذي لدغت فيه الحية بوشاهين السنة قبل الماضية، والموقع الذي كانت تمارس فيه الغنم نوم القيلولة، وبتحديد كهذا لموقع الأرض بإمكان المشتري أن يكسب مترين أو ثلاثة من الأرض المجاورة دون أن يتهمه أحد بـ «التعدي»، وبالمقابل بإمكان المشتري أن يخصم من الأرض المباعة بضعة أمتار لأنه ما من وسيلة للبت بشكل قطعي «أين بالتحديد كان بو شاهين عندما لدغته الأفعى، أو كانت «تتمدد غنم أبو إلياس»، فقد كان الناس في ذلك الزمان – القرن السابع عشر – «عند كلمتهم»، وانظر حالنا اليوم: لعلك شاهدت آلاف المرات حكم مباراة في كرة القدم يقضي بضربة حرة أو لصالح فريق ما، ويحاول اللاعب دحرجة الكرة بضعة سنتيمترات إلى الأمام، ويكون الحكم له بالمرصاد، فتحدث «مفاصلة» ولا صوت يعلو فوق صوت الحكم الذي له حق تحديد موقع المخالفة وبالتالي الموقع الذي ينبغي أن توضع فيه الكرة بـ «السنتي والميللي».
ولكن لعله فاتك الانتباه إلى أجمل دلالات هذا الصك: مسيحي يبيع الأرض لراهبات مسيحيات وأول جملة فيه «بسم الله الرحمن الرحيم»، وددت لو أستطيع نقش هذا الصك على حجر من الصخر و«أدشدشه» على رؤوس اللبنانيين المعاصرين مسيحيين ومسلمين، لأنهم لم يكتفوا بإقامة جدار عازل بين أتباع الرسالتين بل فتفتوا كل دين إلى إقطاعيات، ويوقفك أنت المسلم، مسلح مسلم ويرحب بك ببرود، ويسألك: سني أم شيعي، فتقول إنك مسلم لا تفرق بين هذا وذاك، فيضع فوهة السلاح على صدغك ويصيح منفعلا: سني أم شيعي؟ فتتوكل على الله وتقول إنك شيعي، فتنفرج شفتاه عن ابتسامة ولكنه يواصل التعارف الإجباري: مرجعيتك قم أم النجف؟ حوثي أم يزيدي؟ وإذا قلت إنك سني لمسلّح سني يسألك: مذهبك؟ شافعي؟ وفي لحظة ذعر تصيح: لا نوري المالكي… بوووم!! وإذا قلت إنك مسيحي لمسلح مسيحي فسيريد أن يعرف إن كنت مارونيا أم أرثوذكسيا؟ عونيا أم جعجعيا؟
من ملاحظاتي التي تقوم على استقراء الواقع، أن أي دولة ينتهي اسمها بالألف والنون، تتقدم إلى الخلف بأسلوب منهجي، وعندك لبنان والسودان والشيشان وطاجكستان وأوزبكستان وتركمانستان وافغانستان وباكستان وغيرغستان، وحتى في أوربا فإن أتعس الدول هي اليونان.
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]


تعليق واحد