محمد محمد خير

لغز المفك

[SIZE=5][JUSTIFY][CENTER][B] لغز المفك [/B][/CENTER]

كنت في أخريات الثمانينات أقضي أماسٍي طيبات في الديوم الشرقية، وارتبطت تلك الأماسي ببائعة الكوارع التي تقابل العمارات من الجهة الشرقية للديوم، تجلس أمام ذلك الفاصل الطبقي الذي يفصل بين الديوم والعمارات، وما أبلغ ما قاله الراحل إسماعيل حسن:
“بين الديوم والإمتداد شارع ظلط
للعين يبين،
لكنو في الحق موهو شارع؛
ديه آلاف السنين.
مثلاً هناك في الامتداد ليل المطر
ريحة الدعاش بتجيب عطور الياسمين
الرقص في البيت الكبير
الباسطة واللحم السمين
أما الديوم ليل المطر شن العجب
ما موية ماصت ليها طين!!”
كنا نأتي بأشواق لتلك الحاجة أطال الله عمرها إن كانت على قيد الحياة، وعطر قبرها بشآبيب الرحمة إذا انتقلت لدار الخلود والغفران.
وكنت أسألها: “الكوارع كيف يا حاجة؟” وكأنها كانت تستشرف آفاق السؤال، فتجيبني: ” أنا عاد كوارعي خمج، أولا زيت وآخرا فليت. يضج الحاضرون بالضحك وهم جلوس على (بنابرهم) الممتدة على قارعة الطريق وتلوح مادة سميكة من أسنان فتى يصارع الكوارع حتى يرتجف، لا أدري إن كان ذلك (زيت أم فليت)!
وتوالت زياراتي لتلك الحاجة لأمور كثيرة منها الكوارع نفسها والسجعيات التي كانت تصاحبها ومستوى تجاوب الحضور مع تلك العبارات التي كانت تطلقها الحاجة؛ من قبيل: (الخرفان عند العرب والفسيخ عند الحلب). عشاء من فسطاط رفيع رغم أنه ينتمي لمواخير الأقدام السفلى، وثقافة شعبية تتبطن الكثير من الإيحاءات وحضور يتفاعل (كحنة تشيل على الهبشة)، كما يقول الراحل الدوش.
وذات مرة جئتها مستديناً بعد أن داهمني عدد من الضيوف بالفتيحاب وكان البيت على قلة؛ فانطلقت بعربة أحد الأصدقاء ممن كانوا ضمن الضيوف وقصدنا الديم من الفتيحاب. وحين شرحت لها الأمر، ابتسمت الحاجة وملأت لي حلة كبيرة فاضت بالمرق والأظلاف المكتنزة بالجلاتين (والمواسير والوطايات) وشكرت لي حسن ظني بها وأتحفتني بواحدة من السجعيات انتزعتها من سياق اللحظة وقالت لي وأنا أشكرها (يا ولدي الماعندو زردية يكوس ليهو مفك).
ومنذ ذلك الحين ظلت تلك العبارة تطوف بذهني؛ فهي تحمل الكثير من المعاني المتسقة والمتناقضة. تعني السند والظهر المكشوف في آن معاً وتعني الربط بحكم وظيفة (الزردية) وتعني في نفس الوقت الحل من واقع مهمة (المفك).
وتعني الجمع بين متناقضين لأن ما تفعله الزردية يمحوه المفك. وتعني أيضاً أنه مهما أحكمت القبضة فهناك من له القدرة على رخيها. انظر شاعر البطانة وهو يصف تبدد ظلام الليل ببهاء الصباح (عقدة الليل بالشعاع انحلت).
رسخت تلك العبارة في ذهني، وذات مرة كنت أقرأ قصة قصيرة لكاتبة كندية من أصل ينتمي للهنود الحمر؛ وهذا ميدان أكافح لمعرفة أدبه وهمومه؛ فهم السكان الأصليون لكندا وضحايا تقدمها التكنولوجي الرهيب. أنهت تلك الكاتبة القصة بعبارة غريبة عليّ:Flogging a dead horse وبحثت في كل القواميس ولم أجد لها تفسيراً. وذات يوم ذكرتها لصديق كندي (ما أفضلوا على كل الإخوان) ففهمت منه أن العبارة تعني الإصرار على انتظار شيء لا يثمر ولا يتم. وصديقي الكندي ديفيد متخصص في الأدب الإنجليزي وله اهتمام كبير بثقافة الهنود الحمر، ورد ديفيد التعبير للأمثال الإنجليزية التي سادت في القرن الثامن عشر، لكنه أشار عليّ أن أواظب على محاضرات في جامعة جورج براون بتورنتو تنظمها شعبة اللغة الإنجليزية عن الأمثال، ولما كانت الرسوم المالية لتلك المحاضرات الأسبوعية ذات طابع رمزي، حرصت على التسجيل والحضور أسبوعياً. وفي أول مثل تناولناه لاحت لي الحاجة بائعة الكوارع في الديم؛ إذ إن المثل كان يقول: If no pliers; better screw driver تماماً مثل (الماعندو زردية يكوس ليهو مفك).
مرت بي لحظات أرخميديسية وكدت أصيح: ” وجدتها وجدتها” لكنني (تتقلت) إذ ربما أعثر أيضاً على ضالة أخرى وأجد (لي الأولو زيت وآخرو فليت) رديفاً في الأمثال الإنجليزية السائدة!!
[/JUSTIFY][/SIZE]

أقاصى الدنيا – محمد محمد خير
صحيفة السوداني