منصور الصويم

غربة اللغة


[JUSTIFY]
غربة اللغة

يحكى أن المثقفين السودانيين، لاسيما مثقفي العاصمة الخرطوم؛ واجهوا في حقبة التسعينيات حربا ضروسا من جهات عدة تحالفت للسخرية منهم، عبر اتباع وسائل تهكمية مختلفة ترمي إلى الحط من قدرهم؛ وذلك بإظهارهم بمظهر الغرباء والمستلبين، والذين يحيون في عوالم (خيالية) وأبراج عاجية تنأى بهم عن الأرض التي يحيا فيها الناس البسطاء والعاديين؛ الذين بالطبع (يفترض) أن المثقفين يمثلونهم ويتحدثون عنهم ويسعون لحمايتهم (تفكيرا وفلسفة ونقدا ومواجهة)؛ تلك المحاولات أظهر ما يكون جاءت في شكل (اسكتشات مسرحية – درامية) ونكات سريعة قصيرة ولاذعة يتجول مروجوها بين الأمكنة سخرية واستهزاءً.. وكانت (اللغة) أكثر ما ركز عليه هؤلاء.

قال الراوي: ركز من يحاربون المثقفين في تلك الفترة على اللغة التي يستخدمها هؤلاء للتحاور والتفاكر فيما بينهم- وهي بالتأكيد لغة خاصة وأخذوا ينسجونها خلال حواراتهم الدرامية أو يدغمونها في نكات ساخرة مع فصلها بشكل كامل عن سياقاتها الحوارية المفترضة لدى منتجيها الحقيقة؛ فأصبح في تلك الفترة من الطبيعي جدا من يردد الجملة (المنذهلة) (أنا أفتكر في الحتة)، مرفقا ذلك بفتلة شعر صغيرة في مقدمة رأسه للإشارة إلى حالة (غربة المثقف)، كما يتم ترديد بعض المصطلحات الفسلفية والمعرفية بشكل ببغاوي اعتباطي باعتبارها منقطعة يستخدمها مثقف الخرطوم (أيدولوجي، سيميائي، أركيولوجي، تفكيكي، هارمنوطقي..إلخ).

قال الراوي: تلك الحملة (الشرسة) إبان التسعينيات مزودة بشحنات من الكراهية ظلت بعض الجهات السياسية والإعلامية تبثها منذ خمسينيات القرن الماضي ضد المثقفين والمستنيرين، ومحاولة موقعتهم في مكان اللا انتماء (ديني، اجتماعي وأخلاقي)؛ وجدت رواجا كبيرا بين بعض الناس وربما خلقت راحة نفسية لدى الكثيرين للانتقاص من فئة (متميزة) لكنها بهذا الوضع تصبح غائبة ومغيبة وغير من منتجة وما تنتجه من حوار لا يعدو كونه (كلام الطير في الباقير)، ساعد في تمدد واستمرار هذه الحملة مثقفو تسعينيات الخرطوم أنفسهم، باختيارهم العزلة سواء المكانية أو اللغوية وذلك في نهج متمرد يسخر بدوره من القيم السائدة أوانها ومن المحاولات الفطيرة لتبديل المسارات المجتمعية وزحزحتها عن مسارها التاريخي الطبيعي وإحلال بدائل (غريبة) بديلة عنها، استمروا ينتجون لغتهم الخاصة وينتقدون بجدية الأوضاع (المائلة) ويؤسسون لمشاريع فكرية وأدبية ستنجلي في العشرية الأولى تؤكد أنهم لم يكونوا في (غربة) إنما الآخرون من كانوا.!

ختم الراوي؛ قال: لغة المثقفين كانت في مجالها الطبيعي، لذا أنتجت معرفة تنحت في الواقع السوداني وتشرح مشاكله وإن تم ذلك بعد حين.

استدرك الراوي؛ قال: اللغة أداة تواصل لا تحتمل الاجتزاء أو الإخلال بسياقاتها التحاورية أيا كان المخاطب أو المرسل.

[/JUSTIFY]

أساطير صغيرة – صحيفة اليوم التالي