محلول للحياة
وكلنا نعلم الارتفاع الملحوظ في نسبة تفشي المرض، لاسيما بين الأطفال بسبب تعاطيهم المستمر للمأكولات والمشروبات الصناعية المكتنزة بالأملاح، أو بسبب معاقرة الأمهات للكريمات المبيضة والأصباغ منذ أمد الحمل والرضاعة وحتى الآن، إثر الهوس النسائي المخيف بدعوى البحث عن الجمال المزيف!!
وإذا كنت لم تقف بعد على حجم المأساة الفعلية للمصابين بمرض الفشل الكلوي يمكنك زيارة المراكز المختصة بالغسيل حكومية كانت أم خاصة لترى بأم عينيك تلك الحالة المزرية من الوهن والألم والركض المتواصل طلبا للعلاج الذي ترتفع أسعارة بمعدل منهك لجيوب السواد الأعظم ناهيك عن عدم توفره للدرجة التي كثيرا ما دفعت المرضى وذويهم للاعتصام والتظاهر والجأر الملح بالشكوى.. وهيهات!
المسؤولون يتذرعون بتزايد عدد المرضى والنفقات الباهظة التي تكلفها الأجهزة والعقاقير والمحاليل اللازمة لهم.
والمرضى الذين كتب عليهم أن يغسلوا كلاهم بصورة راتبة سعيا للبقاء علي قيد الحياة، يغسلون يوما ويمضون عدة أيام دون غسل منتظم!!
ومحلول الغسيل الحيوي المكون في الغالب من أملاح الصوديوم المختلفة والماء الزلال يستورد من خارج البلاد بأسعار خيالية!
ولكني كنت محظوظة جدا حين قدر لي أن أقف علي تجربة سودانية وطنية رائدة تسمى (مصنع قرطاج لمحاليل غسيل الكلى).. ولكم أن تندهشوا مثلي من أن أحدا ما في بلادنا كان من الجرأة والإنسانية بمكان بحيث غامر بالاستثمار في مجال نادر وغير مطروق ومتعثر بسبب العديد من العراقيل ولكنه أصر رغم ذلك على المضي قدما وتكبد الخسائر المادية في سبيل تقديم خدمة إنسانية لبني جلدته على أمل أن يجزيه الله عنها خير الجزاء ويثيبه عليها عظيم الثواب.
محيي الدين وحاتم وبشير.. ثلاثة أصدقاء من أنبل الرجال الذين عرفتهم.. يحملون هذا الهم الكبير ويمعنون في تطويره مدفوعين بشعور أقوى من كل متاع الدنيا الزائل.. والمصنع الصغير الجميل الذي كان يوما ما في غابر الأزمان مكانا لتصنيع البيرة والكحول ثم أصبح خرابة مهجورة سنين عددا، ها هو اليوم ينتفض بفضل همة الرجال الذين آمنوا بالفكرة واستطاعوا أن يعيدوا ترميمه وتأسيسه ويرفدوه بالأجهزة المتخصصة والكوادر الطبية المؤهلة بحيث أصبح بؤرة من النبل والعطاء لا تكتفي بتصنيع محلول الحياة لأولئك المتكدسين على أعتاب البلاء ولكنه أيضا يقدم نموذجا رائدا في سودنة الوظائف واستيعاب الكوادر الشابة المؤهلة لتخلق مجتمعا متماسكا لخدمة البلاد والعباد.
وإذا قدر لك أن تقف علي تجربة مصنع (قرطاج) من حيث المبنى والمعنى والدقة والمسؤولية.. أراهنك على أن مزيجا من مشاعر الزهو والاحترام والشجن والحماس سيسيطر عليك بحيث تتمنى أن تقدم لهم كل ما بالإمكان في سبيل أن تستمر هذه التجربة الإنسانية علي أمل أن نمزق فاتورة استيراد العلاج تماما بفضل الخدمات الإضافية المزمع تقديمها للمرضي كأضعف الإيمان طالما ليس بإمكاننا اجتثاث المرض من جذوره.
ويبقى الأمل في أن تنظر الجهات المعنية بالضرائب والجبايات لمثل هذه المشاريع النبيلة بعين الرأفة والتقدير.. وأناشد وزير الصحة ووزير الإسكان وكل المعنيين ومن قبلهم والي ولاية الخرطوم في مد يد العون لهذا المشروع ودعمه بتوفير موقع مستقر ومناسب بدلا عن مكابدة الإيجار الشهري الباهظ الذي يمكن توظيفه في ما يخفف أعباء الفشل الكلوي عن أهله، شفاهم الله.
أتمنى أن يعافينا الله جميعا من كل الابتلاءات.. ويسبغ على أصحاب المعاناة الشفاء.. ويعيننا على تقديم العون اللازم وتوفير سبل العلاج حتى يتمكنوا من مواصلة حياتهم من أجل أبنائهم وذويهم ويحمدوا الله على بلواهم التي لابد أنها تزيد حسناتهم وتحملهم من ضنك الحياة إلى رحابة الخلود يوما بإذن الله.
تلويح:
أرفع القبعة امتنانا، وأنحني احتراما لكل العاملين في قرطاج.. لاسيما أولئك الشباب والشابات الذين ضربوا لي مثلا في التجرد والإنسانية.. وعلموني كيف تبني السواعد الفتية والعقول الذكية والسواعد السودانية مستقبلنا ويعينون ضعفاءنا.. علي أمل أن يحقق منتوجهم الاكتفاء الذاتي ثم يعبر الحدود ليرفرف بعلم السودان عاليا.
[/JUSTIFY]