جميلة كذنبٍ لا يُغتفر
الرجل الأربعيني الهادئ جداً، قال للمحقّقين وهو في كامل قواه العقليّة، إنّه يحب زوجته كثيراً، وأنها كانت وفيّة له وتُبادله الحبّ، وتُنفق وقتها في العناية بالأولاد، ولا مَأخَذ له عليها سوى جمالها. فكلّما نظر إليها، اكتشف كم هي غاية في الجمال، وكم تسحر الناس بابتسامتها المشرقة دائماً.
الأرْجَح، أنّ الرجل كان يريد أن يقول أنه كلّما نظر إلى نفسه ، رأى كم يبدو إلى جوارها دَميماً و عادياً ، وأنه ما استطاع التعايش مع جمال يُبشّعه فقتلها.
أفكّر في قول ريلكه «ليس الجمال سوى بداية ذُعر يكاد لا يُحتمل». أيكون الجمال ظالماً لصاحبه أكثر من ظلمه الآخرين؟
لم يُجبنا إبراهيم ناجي عن هذا السؤال، وهو مَن ابْتَـدَع ذلك الوصف المذهل في رائعته ” الأطلال “حين قال “ظالمُ الحُسْن” .
أعتقد أن الحُسن يظلم صاحبه في الدرجة الأولى. الدليل أننا لم نسمع بقبيحة انتحرت لأنّها اكتشفت، كم هي دميمة مُقارنةً بصديقتها الحسناء.
الدميمون لا ينتحرون بسبب بشاعتهم، وإلاّ لكان الأولى بهذا الزوج أن ينتحر بدَل أن يقتل زوجته. لكن التاريخ مليء بأسماء الفاتنات والوسيمين من المشاهير الذين انتحروا.. أو تحرّشوا بالموت، لأنّهم ما استطاعوا التعايش مع نعمة جَمالهم، حين غَدَت لعنة.
لعنة الجمال تكمن في كونه لا يدوم ، و مع العمر يُفضي إلى الحزن والانكسار والوحدة ، لأنه كثيراّ ما يتحوّل إلى بشاعة يشقى بها صاحبها ،فهو يرى في عيون الآخرين حسرتهم على ما آل إليه . إنها النهاية المفجعة ، التي تجسّدها بريجيت باردو، المرأة التي كانت في الستينات، رمز اللأنوثة الطاغية، بعد أن وفَى زوجها المخرج روجيه فاديم بوعده، حين قال لها وهو يُعدّها لدورها الأسطوري في الفيلم الشهير «وخَلق الله المرأة»: «سأجعل منك الحلم المستحيل لكلّ الرجال المتزوجين ! ».
وأصبحت بريجيت حلم مليار رجل على وجه الأرض، ورمزاً عالمياً للجمال الأنثوي. لكن «ب.ب» غَـدَت كابوساً لنفسها. فمن بين المليار رجل، لم تعثر على رجل واحد يمكن أن تُنهي معه أيامها. فلقد استغلّها الرجال للوصول إلى الشهرة، وكلّ مَن احتضنها منهم كان يحتضن نجوميتها، ثم يغادر سريرها ليُشهّر بها.
مثل مارلين مونرو ، وداليدا، ورومي شنيدر ، والفاتنات الأخريات اللاتي عاصرنها وشغلن الشاشات وأغلفة المجلاّت ، وانتهَيْنَ منتحرات، حاولت «ب.ب» الانتحار. ثم لفرط ما تلقت من طعنات و عاشت من خيانات، قرّرت كما الحيوان الجريح، أن تتقوقع داخل صَدْفتها.
المرأة التي أعلنت أنها « رجل حياتها »، قاطعت منذ ثلاثين سنة جنس الرجال إلى الأبد ومعهم معشر البشر . فقد وجدت أنّ الحيوانات أكثر أماناً ووفاءً وعرفاناً بالجميل، فكرّست لهم حياتها.
قالت في مقابلة لها «ما عدتُ أُصاب كما في الماضي باليأس والانهيار. إنني أتعالى على الخيانات، بفضل مساعدة أصدقائي الحيوانات ».
وللذين يَعجبون من عدم لجوئها إلى العمليات التجميليّة تُجيب « أين المشكل إن كانت التجاعيد قد ظهرت على وجهي مادامت الحيوانات لا يهمّها هذا الأمر! ».
لكن الناس لم يرحموها بتعليقاتهم الجارحة. أحدهم كتب لها: «بالمظهر الذي تَبدين عليه.. فإنّ عنزاتك التي تظهر إلى جانبك في الصورة يمكنها الفوز بتاج الجمال ! ».
كأنّ اللواتي كُـنَّ يحسدنها من النساء، أو الذين اشتهونها يوماً من الرجال، يثأرون الآن لأنفسهم بالسخرية من شكلها الجديد ، بجَرح جمالها الذي آذاهُم في الماضي . ذلك أنّ الجمال سيئ السمعة، كأنّه ذنب لا يُغتفر كما في الأغنية الشعبية «عيون بهيّة» التي تشقى فيها الصبية بجمال عينيها ، وعلى أصحابه دفع ثمنه كلما تقدّم بهم العمر. لذا، يرحلون باكراً، ويعيشون بيننا نادمين على أمر ما.
ألم يقل الشاعر بودلير «إنّ الوجه الفاتن والجميل يجعلنا نحلم بالنشوة والحزن في الوقت ذاته، فالغموض والندم أيضاً هما من سيمات الجميل».
فسبحان من جعل لكلّ نعمة ضريبتها في الحياة !
)[/JUSTIFY]