د.عبد الوهاب الأفندي

في تذكر الصالحين: الطيب ومحمود وثالثهما محمد الحسن


(1) تابعت أمس الأول، بشيء من الرضى وكثير من الحزن المقيم، بعض وقائع الاحتفال السنوي بجائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي الذي تنظمه شركة زين في السودان تزامناً مع الذكرى الخامسة لرحيل ذاك المبدع الإنسان. مبعث الرضا فهو هذا النجاح في تخليد ذكرى الراحل العزيز، وكثرة ذاكريه بالخير. ولكن حزناً تهيجه بالذكرى لا يبارح، ضاعف منه هذا العام رحيل أحد أقرب رفاقه الأستاذ محمود صالح عثمان صالح، رحمهما الله وأحسن إليهما. فقد افتقدنا محمود في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بصورة مفاجئة لم تترك للوداع سبيلاً، فزادت الصدمة والأسى.
(2) لم تكن معرفتي بمحمود، رجل الأعمال والأديب والمثقف وراعي الثقافة، بمثل طول معرفتي بالطيب، ولكن يكفي لقاء واحد مع محمود لإدراك معدن الرجل وجميل معشره. فقد سعدنا ثلاثتنا بصحبة جميلة في إطار مهرجان أصيلة الثقافي في صيف عام 2005، كانت من أروع ما يتمناه المرء. وقد زانتها صحبة إخوة كرام آخرين، كان على رأسهم الصديق طلحة جبريل، فكانت نعم الرفقة في طيب مجالسها وعابق جوها. وكنت قد كتبت تلك الأيام هذه الجملة في رثاء الطيب: « فسعدت لأكثر من أسبوع بصحبته والأخ الكريم محمود عثمان صالح، فلم يكن هناك أقرب إلى فردوس أرضي للعقل والنفس والروح من تلك المرابع سقاها الله، خاصة في صحبة الطيب ومحمود».
(3) في أيام الطيب الأخيرة، كان محمود نافذتنا عليه، خاصة بعد أن لزم المستشفى ونصحت أسرته بتقليل التواصل معه رعاية لحالته. فكان محمود هو الملازم له، فكنا نطمئن عليه عبره، حتى أتى أمر الله، فناب عن الجميع في تولي ما لزم لترتيب إرسال الجثمان إلى الخرطوم.
(4) قبل أكثر من عام من رحيل الطيب، كانت رفيقة العمر الدكتورة إيمان عباس تأتمر وجماعة من محبيه لتقديم هدية له بمناسبة بلوغه الثمانين في 12 تموز/يوليو عام 2009، وذلك بإعداد كتاب على شرفه يحتوي على مساهمات تتناول أدب الكاتب وبعض المواضيع التي يعشقها، ومن أهمها الوطن والتغني به. وكانت إيمان قد أعدت رسالتها للدكتوراه في جامعة لندن حول رمزية القرية-الوطن والهوية في أدب الطيب، وهي قبل ذلك وبعده من عشاق أدبه والمسحورين بالطيب الإنسان. وقد شمرت المجموعة المختارة عن ساعد الجد لإعداد مساهماتهم في الكتاب الذي اختارت له عنوان: «هذا هو المكان» (وهي عبارة مختارة من باكورة أعماله، قصة «دومة ود حامد»).
(5) كان محمود رحمه الله أحد «المتآمرين» في هذه المبادرة، وقد تحمس للفكرة وأصبح من رعاتها. ولكن الأجل عاجل الطيب والعمل في مراحله الأخيرة، فلم يسعد برؤيته كما تمنى محبوه. إلا أن محمود وبقية الفريق أصروا على إتمام الكتاب وإصداره تخليداً لذكرى المهدى إليه. وبالفعل، سافر محمود إلى بيروت حيث أشرف بنفسه على طباعة الكتاب وإصداره.
(6) صدر الكتاب عن مركز عبدالكريم ميرغني، وهو صرح شاده الراحل محمود في نهاية التسعينات في مدينة أم درمان العريقة، في إطار مساهمات ومبادرات عديدة للراحل في خدمة العلم والثقافة السودانية، وتخليداً لذكرى قريبه وأحد رموز العمل الوطني في البلاد. وكنت أحرص خلال وجودي في السودان على حضور نشاط المركز المتعدد الأبعاد، ومنها جائزة الطيب صالح للرواية التي بادر بها المركز بعد أن تبرع الطيب بقيمة واحدة من الجوائز العديدة التي نالها لهذا الغرض.
(7) لا عجب إذن أن كان إحساس الفقد مضاعفاً هذا العام ونحن نتذكر ونفتقد طيبنا بافتقاد رفيقه الأثير، ونظيره في دماثة الخلق وطيب المعشر. وكنا قد فجعنا قبيل رحيل الطيب في أستاذنا وواسطة العقد في مجالسنا اللندنية، الأستاذ محمد الحسن أحمد، رحمهم الله جميعاً. وقد كتم المقربون من الطيب عنه خبر رحيل محمد الحسن الذي سبقه إلى دار البقاء ببضعة أشهر لاعتقادهم بأنه ما كان ـ وهو نزيل المستشفى- ليحتمل الصدمة. وقد صدقوا، فإن فقد أي من الرجلين لم يكن، كما قال الشاعر، فقد واحد، «ولكنه بينان قوم تهدما». فما بالك بفقدهما معاً، ثم ثالثهما محمود؟
(8) ولعلها فرصة اليوم أن أبعث بالتحية للأخ حسن تاج السر، رابع أربعة في عديد جلسات أنس وصفاء وعلم وثقافة وانشغال بهموم الوطن المكلوم، كانت تجمعنا وإياه مع الطيب ومحمد الحسن، في صحبة شخص أو اثنين آخرين كما اتفق. حياه الله وأبقاه ومتعه بالصحة والعافية، وقد اختار هذه الأيام أن يقضي معظم وقته في الخرطوم. وكان حسن ومحمد الحسن يتنافسان في استضافة نخبة من قاطني لندن وزوارها في جلسات طيبة لا يحرم منها إلا من حرم.
(9) كانت أكثر لقاءاتنا في مطاعم شارع إدجواير في وسط لندن، أو في مطعم تركي مشهور يبعد خطوات عن مكتبي في جامعة وستمنستر. وكان صاحب المطعم يسأل عندما نصل ونستفسر عن الطيب قائلاً: تبحثون عن نيلسون مانديلا؟ إنه هناك على الجانب الأيمن. ولم نكن نلحظ قبل ذلك هذا الشبه العجيب بين العظيمين. وكان من عجب أنني كذلك لحظت كذلك شبه عملاق الادب النيجيري شنوا أشيبي العجيب بكل من صالح ومانديلا، ولله في خلقه شؤون.
(10) إنها لنعمة من نعم الله أن سعدنا حقبة من الدهر بصحبة هذه الرفقة الكريمة، فكانت كما قال الشاعر: «وكنا كندماني جذيمة حقبة/ من الدهر حتى قيل لن يتصدعا/ فلما تفارقنا كأني ومالكاً، لطول اجتماع لم نبت ليلة معا». وأذكر أن إيمان علقت قائلة بعد أول زيارة سعدنا بها في دارنا من الثلاثي الطيب ومحمد الحسن وحسن، وكنت وقتها أتعافى من عملية جراحية كبرى: إني أرى في هذه المجموعة الأصالة السودانية تمشي على قدمين. ألا طيب الله ثرى من رحل من هؤلاء الكرام الطيبين، وطيب وأرضى وعافى من بقي منهم ورضي عنهم.

٭ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن


تعليق واحد

  1. وانت كذلك فمن حسن معشر الرجل ان يذكر اخاه بخير وستقو ل لك الملائكة التي يسخرها الله لتقول لك ولك بمثل ومن بعدها نقول لك ولك بمثل فجزاك خيراً عنهم خير الجزاء .