عراك السودانيين .. من «فش» الغبينة الى جر الشخيط
ليس من السهل أن تنتزع إبتسامة من شخص إستلقى على مقعده في مركبة عامة بعد مشقة الحصول عليه في زحمة نال منها ما نال من (لكمات) و (ركل) بالأرجل وربما تبعثرت أوراقه أو سقطت نظارته إنها معركة لا تخلو من خسارة.. يجلس ذلك الشخص ببقايا غضبه بتكشيرة.. لا يبددها سيل النكات المنبعث من كاسيت المركبة وبينما هو يحاول جاهداً أن يعيد توازنه ويصلح هندامه الذي فقد منه أحد أزرار القميص.. بدأ الكمساري مهمته المعتادة بجمع النقود إلى أن وصل آخر المركبة (كنبة شكراً جزيلاً) فبدأ بالتحصيل فأعطاه الأول نصف ثمن التذكرة ومد له بطاقة تبين انه طالب وهكذا فعل الباقون عندها صاح الكمساري بأعلى صوته إن العدد المسموح به للطلاب إنتهى وبدأ النقاش: الطلاب يتحدثون على أنهم أصحاب حق والكمساري يرد بأنه غير مسؤول عن ذلك إلى أن وصل النقاش الى طريق مسدود بمطالبة الكمساري ان يغير مسار الرحلة لأقرب نقطة شرطة للفصل في القضية.. هنا تدخل الأوجاويد من بقية الركاب ولكن الكمساري تمسك بحق الفصل أمام الشرطة فأحدث هذا القرار رد فعل واسع بين الركاب فنهض صاحب القميص ذي الزرار (المقطوع) في الزحام وتبني قضية الطلاب ودخل في نقاش مع الكمساري فأمسك به من (رقبته) محاولاً ضربه إلا أن المقعد الذي أمامه حال دون فش (غبينته).. إنتهت رحلة المركبة أمام مكتب الشرطة وأخذ الركاب ثمن التذكرة وتفرقوا حول شارع الأسفلت للبحث عن مركبة في منتصف الطريق بسبب (الشكلة).
المركبات العامة ليست وحدها التي تصنع (الشكلة) على الطريقة السودانية فأين ما وجدت زحمة يحدث الإحتكاك الذي يؤدي إلى إنفجار المواقف فواحدة من ضمن طرق الزحمة (الصف) أو الإصطفاف لأغراض عدة مثل صف التذاكر وتقديم الإستمارات وأشهرها كان (صف الرغيف) في الثمانينيات من القرن الماضي فالصف حسب نوعه والمكان الذي يوجد به تكون درجة المشكلة، (فصف الرغيف) في سابق عهده تندلع فيه اكثر من مشكلة في آن واحد في أوله وأوسطه وآخره فأوله تكون (الشكلة) بين الزبون وصاحب المخبز بسبب تأخير حصته من الخبز وتكون معركة كلامية أما أوسطه وآخره فبسبب الهرجلة والإخلال بالنظام ويتحول النقاش الى ضرب بالأيدي.
أما الصف الذي تحترق فيه الأجساد من أشعة الشمس يكون بؤرة للمشاكل وذلك عندما يتصبب الشخص عرقاً رغم محاولة تخفيف شدة (الحر) بأوراق الصحيفة أو المستندات التي يحملها، ولكن هذا لا يمنع من تسلل التضجر الى النفس ولذلك ألفاظ تبين أن الموقف قابل للإنفجار مثل (ما تدفر).. (زح كدة شوية) .. (ياخي عفصتنا) (وأرجع ورا).
رغم أن الشارع السوداني يحظى بنصيب الأسد في صنع (الشكلة) بأنماطها المتعددة التي في الغالب يكون بطلها آدم دون حواء التي يكبت الحياء بداخلها ثورة الغضب ولكنها لا تستطيع الكبت في مكان آخر غير الشارع.. ففي (الحلة) تغضب (…) لمجرد أن ابنها أتاها يبكي ويشكو من ابن الجيران الذي ضربه بالحجر على رأسه.. أتى الطفل وخلفه موكب من صبية (الحلة) يساعدونه في تصوير ما حدث من ابن الجيران لم تلبث (…) أن تسمع شكوى ابنها حتى أخذت ثوبها نصفه على كتفها والنصف الآخر على الأرض قاصدة منزل (المتهم) الطفل ابن الجيران ودخلت في معركة كلامية مع أم الطفل بدأتها بموشح سوء التربية وغيرها من الألفاظ التي جعلت الجارة أم الطفل تخط على الارض شخيطاً تتحداها به في حال تخطيه فما كان من (…) إلاَّ وأن هتفت باسم قبيلتها التي لا تعرف الجبن في يوم النزال ودخلت أرض المعركة وتساقطت الثياب على الأرض وكل واحدة متشبثه بشعر الأخرى وعندما شعرت (…) بقرب الهزيمة أخذت ساعد الجارة أم الطفل بين فكيها وغرست أسنانها فصاحت الجارة فتدخل الجيران وفضوا الإشتباك في الوقت الذي كان فيه الطفلان سبب (الشكلة) يلعبان مع بعضهما.
الطبع الحامي وسرعة إندلاع المشكلات يصعب وجوده في مجتمعات أخرى: فكثير من المواقف الساخنة التي تكون كافية لتوليد (معركة) في الشارع السوداني تقابل عند تلك المجتمعات بروح (جليدية) تمتص سخونة الموقف دون الإنصهار، ففي أوروبا يخطئ الشخص وقبل أن يعتذر عن الخطأ يعتذر له الآخر…
تلك (الروح) (الجليدية) تبدو قريبة من إحدى المجتمعات العربية الأفريقية مثل المجتمع المصري فبمجرد حدوث موقف قابل للإشتعال تسمع كلمات التلطيف (معليش يا عم) و (أمسحها في وشي) وغيرها.وفي مرات يشتعل العراك بتبادل الاساءات والشتائم دون مد الايادي.
( شكل) السودانيين جعلنا نضع الشخصية السودانية تحت مجهر أهل الإختصاص لمعرفة المزاج الذي لا يقبل (الحقارة) و (الماضوقتو إيدك ما ببقى رفيقك).
جلسنا مع الأستاذ أشرف أدهم أستاذ علم الاجتماع السياسي والانثربيولجي بجامعة النيلين فقال: يتكون المجتمع السوداني من مزيج عرقي كبير تتمازج فيه الدماء الافريقية مع العربية بالإضافة الى دماء أخرى شكلت السودانيين الموجودين الآن إلى جانب عدد ضخم من الثقافات المحلية والوافدة التي تمتزج وتشكل ثقافة السودانيين من عادات وتقاليد وقيم ومعايير يغلب طابع العاطفة فيها على الشخص السوداني وهذا يعني أنه سريع الإنفعال وفي كسر من الثانية يتحول السوداني الى مقاتل شرس في (شكلة) قد لا تكون أسبابها مهمة أو لا يكون هو الطرف الرئيسي فيها وإنما بإنفعاله (بشكلة) تحدث بين اثنين يمكن أن يتعاطف مع أحدهما ويتبنى (الشكلة) وأيضاً في كسر من الثانية يزول الغضب من الشخص (المتعارك) وربما تنشأ صداقة قوية بينه وبين ذلك الشخص.. ويشترك السودانيون على إختلاف قبائلهم رجالاً ونساء في هذه الطبائع.. بعض العلماء يعتقدون أن الطقس (الحار) له تأثير في سرعة الإنفعال وربما لأن مناخ السودان متقلب أثر على مزاج الشخص السوداني على الرغم من أن هنالك تهمة أن السودانيين غير ميالين للإبتسامة والضحك لكن هذا الزعم غير صحيح.
ومن ناحية أخرى هنالك موروثات ثقافية ربما ما زالت مترسبة في العقلية السودانية تلك الموروثات هي أن الأبناء الذكور في المجتمع عندما يصلون سن المراهقة يتعرضون لإختبارات تعرف في علم الاجتماع (بحفلات التكريس) حتى يثبت الشباب الجدد رجولتهم للمجتمع هذه العوامل ربما تكون السبب في سرعة إستجابة الأشخاص السودانيين للمثيرات السلبية وحسمها عن طريق (العراك)!
الخرطوم: سلمى سلامة
صحيفة الراي العام
مقال شيق و ممتاز يصف الحالة السودانية في كل مكان . كنت أسأل نفسي عن عبارة ( لو سمحت ) التي ينفرد بها أهل العاصمة في الثمانينات حتى أواسط التسعينات هي عبارة راقية وحضارية إندثرت في خضم ( الزهج ) اليومي و ( الشكلات ) المتعددة.
يا سلام يا أستاذة سلمى … روعة الثرد وذكاء التناول والاختيار وبصراحة الموضوع شيق وسلس وتناول قضية اجتماعية بالتصوير الدقيق والتفاصيل الأدق …. شكرا ليك سلمى وربنا يسدد خطاك وبالتوفيق
والله يااا حليلو السودان ويا حليل شكل المواصلات والكماسرة الماخدين كورس في
اللئامة وحراس المستشفيات والله الناس ديل الواحد ما بعرف قيمتهم الا لمن يفارقهم
(كانت ايام جميلة ربي مناي تعيدها)