“بلد المليون شاعر” مبالغة إعلامية تثير الجدل في موريتانيا
أطلق النقاد لقب “بلاد المليون شاعر” على موريتانيا بعد أن لاحظوا عشق أبنائها للشعر وولعهم به ودوره في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبلاد، وتناقلت أقلام الكتّاب هذا اللقب وأعجبت به وسائل الإعلام حتى ارتبط اسم البلاد به وأصبح علامة مسجلة لموريتانيا، لكن ماهي حقيقة هذا اللقب وكيف انطلق، وهل يعكس حقيقة وضع الشعر في البلاد ومكانة الشعر الموريتاني في العالم العربي.
شعراء بالفطرة الشعر شغل الجميع في موريتانيا بداية لابد من الاعتراف أن هناك علاقة حميمة بين الموريتانيين والشعر، فزائر هذه البلاد يلاحظ انتشار تداول الشعر بين أهلها إنتاجاً ورواية وتمثلاً واستشهاداً، ويقول أحد النقاد واصفاً هذا العلاقة، “الشعر خبز جوهري لأبناء شنقيط، يأكلون منه ولا يشبعون، وينهلون من نبعه ولا يرتوون، فهم والشاعرية توءم وجود، تحدرت معهم من أصلاب جدودهم، وعايشتهم في طفولتهم وشبابهم ورجولتهم واكتهالهم، فأنى لهم أن يتقبلوا الحياة دون قافية تدندن.. الشعر هو كيمياء السعادة لدى كل فرد موريتاني وفاعل المعجزات في نفسه”.
وإذا اعتبرنا أن مفهوم الشعر يتسع للشعر الفصيح والشعبي وحتى النظم أحياناً فإننا قلّما نجد موريتانياً إلا وهو يتعاطاه بهذا الشكل أو ذاك، فالشعراء المبدعون يتعاطونه على مستواهم، والفقهاء والعلماء ينظمون به معارفهم المختلفة نحواً وصرفاً وفقهاً وعقيدة، والبسطاء والأميون يتعاطون الشعر الشعبي تعبيراً وإبداعاً وينظمون به معارفهم الشعبية البسيطة، أما على مستوى تعاطيه رواية فهو شائع لدرجة تتداخل فيها مختلف المستويات المثقفة وغير المثقفة.
وإضافة إلى وجود الشعر في الحياة اليومية للموريتانيين في أحاديثهم وجلساتهم وسمرهم الليلي، فهو حاضر في التاريخ والحضارة وكان معياراً يقيس به الناس خصال المرء، فالناس كانوا يحبون الحاكم الشاعر ويمتثلون لأوامر رئيس القبيلة الذي ينافس أشهر الشعراء، فالمطّلع على تاريخ وثقافة هذا البلد يدرك ما يمثله الشعر بالنسبة للشناقطة حيث أن له سلطة وسيادة اجتماعية وثقافية نادرة الوجود، فالخصال التي تمكن صاحباً، قديماً، من احتلال مكانة هامة في محيطه يأتي على رأسها إتقان نظم الشعر، لتتوالى بعدها باقي الخصال كالنسب الرفيع وفنون القتال ودماثة الأخلاق.
نهضة الشعر الشاعر الكبير احمدو ولد عبد القادر رغم أن دور الشعر وأهميته في حياة الموريتانيين كاف لتأكيد استحقاق موريتانيا لهذا اللقب، فإن إظهار الدور الذي اضطلع به الشعر في النهضة الأدبية وتأثير المثقفين والشعراء الموريتانيين في الساحة الأدبية بالعالم العربي يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن موريتانيا تستحق عن جدارة واستحقاق لقب “بلاد المليون شاعر” الذي أطلقته مجلة العربي سنة 1967 حين خصصت أول تحقيق عن موريتانيا بعنوان “نواكشوط…أحدث عاصمة في أقصى منطقة من وطننا العربي” حيث أسند كاتب التحقيق هذه الكلمة إلى محاوريه من المواطنين الموريتانيين عندما قال: “وسألناهم: كم عدد سكان موريتانيا فأجابوا: مليون… مليون شاعر.. نعم فكل أهالي موريتانيا شعراء”، وقتها كان إحصاء السكان يقارب هذا العدد.
لقد استطاع الشعراء الموريتانيون في القرون الثلاثة الأخيرة إحياء شكل القصيدة العربية القديمة في بحورها الطويلة، مبتعثين بذلك أعرق مستويات المعجم في القدم وهو المعجم الجاهلي، ومبتعدين عن التجنيس والصناعة اللفظية التي هيمنت على أدب عصور الانحطاط، وبذلك كانوا سباقين إلى ولوج التجديد وصياغة شروط النهضة الحديثة.
وتميزت النصوص الشعرية في هذه الفترة بجزالة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد تطور عبر فترة زمنية طويلة، مما يؤكد أن عمر الشعر في موريتانيا يزيد على عشرة قرون، لكن ما وصلنا منه على شكل دواوين ونصوص كاملة لا يتجاوز عمره الثلاثة قرون والنصف، بسبب نقص التدوين وندرة النشر بالإضافة الى قلة الدراسات النقدية الجادة التي يمكن أن يرتكن إليها في تقويم المدون القليل والمنشور الأقل من التجربة الشعرية قديماً وحديثاً.
ورغم ذلك يمكن القول إن الشعر الموريتاني القديم في غالبه كان ظاهرة متميزة إن لم أقل معجزة وذلك بالنظر إلى سياقه الزماني والمكاني والتاريخي عموما، حيث شكل مع الثقافة الشنقيطية استثناء منقطع النظير حطم مسلّمة عالم الاجتماع ابن خلدون وغيره من الانثروبولوجيين والاجتماعيين حول تنافي العلم والبداوة، كما حطم مسلمة سيادة عصر الضعف التي يحاول مؤرخو الأدب تعميمها على العالم العربي كله دون مراعاة لاختلاف طبيعة المكان والزمان والإنسان.
وقد هيأت حركة المرابطين في بلاد شنقيط لهذه النهضة الثقافية التي أنجبت أعلاماً وشعراء كبار، كما دعمت المحاضر وهي المدارس التقليدية هذا العشق الكبير للشعر فكان منهجها الدراسي يجبر الطلاب على حفظ عشرات الدواوين الجاهلية والإسلامية، وحكايات الأدب من مقامات وسير وأراجيز.
لكن قلة التواصل وعدم توثيق وتأريخ هذه المرحلة كما يجب، أضاع على الموريتانيين فرصة تأكيد ريادتهم الأدبية في عزّ النهضة العلمية الشاملة التي شهدتها البلاد وهي في نفس الفترة التي كان فيها معظم العالم العربي والإسلامي يعيش فترة انحطاط ثقافي لا مثيل لها.
تشكيك ومبرراتأثار اللقب حفيظة الكثير من النقاد ربما لأنهم يستكثرون على بلد يقع على بوابة إفريقيا وفي أقصى نقطة غربية من العالم العربي، أن يحمل هذا اللقب، وهو رأي لا يحيد عن نظرة المركز إلى الأطراف عبر تاريخ الحضارات الإنسانية.
كما أثار هذا اللقب ردود فعل سلبية اتسمت بنوع من السخرية خصوصاً في السنوات الأخيرة حين لم ترافق الشعر الموريتاني نهضة نشر تسوقه في العالم العربي، فضاع أغلب قديمه تحت وطأة عاديات الزمن وظروف الجفاف والتصحر وقسوة النقلة من البداوة الى التحضر ومن أنساق التعليم الأصلي الى التعليم الحديث.
وإضافة الى غياب الفعل الثقافي وتكاسل الشعراء عن الحضور والظهور الإعلامي والتفاعل مع الأحداث العربية، جاء تجاهل الموريتانيين لهذا اللقب الذي لم يؤخذ مأخذ الجد من طرف النقاد والكتاب والشعراء في موريتانيا وهو ما فسره البعض على أنه اعتراف ضمني بعدم استحقاقه، وبالتالي التخلي عنه حتى لا يعلق بالذاكرة ويظل محل جدل دائم.
لكن هذه المقولة “بلد المليون شاعر” التي ظلت ألسنة الجماهير العربية تلهج بها منذ ستينات القرن الماضي، ساعدت بشكل غير مباشر على نشر اللغة العربية في إفريقيا الغربية وحافظت على سلامة اللغة ونقاوتها من الشوائب في موريتانيا رغم أن هذا البلد محاصر بجيرانه الأمازيغ والأفارقة وبثقافات وأعراق متعددة، كما حفظ هذا اللقب للشعر مكانته المرموقة في موريتانيا، ونبغ فيه المئات وبغض النظر عن مدى دقة التعبير وتنازع الأسطورة والحقيقة داخل فضاء المقولة فان مصداقية هذه “المبالغة الإعلامية” تبقى حاضرة، بفضل ظاهرة كثرة الشعراء وعشق الموريتانيين للشعر وكثرة تعاطيهم له إنشاء وإنشاداً وتمثلاً واستشهاداً بشكل يعز نظيره في بلاد عربية أخرى.
لكن إلى متى سيظل هذا التشكيك وهذا السؤال واردا “هل موريتانيا بلد المليون شاعر؟” وإلى متى ستظل المسافة شاسعة بين الدعوى والواقع في الساحة الثقافية الموريتانية حيث لا يبدو المنجز الشعري الموريتاني متناسباً مع دوي لقب “بلاد المليون شاعر” الرائج وصفاً لموريتانيا.
العربية نت
شاعرين بي شنو المليون ديل