الطب النبوي

علاج الصداع ومعالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب


في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج ذات الجنب ..
روى الترمذي في جامعه من حديث زيد بن أرقم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” تداووا من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت ” .

وذات الجنب عند الأطباء نوعان : حقيقي وغير حقيقي . فالحقيقي : ورم حار يعرض في نواحي الجنب في الغشاء المستبطن للأضلاع . وغير الحقيقى : ألم يشبهه يعرض في نواحي الجنب عن رياح غليظة مؤذية تحتقن بين الصفاقات ، فتحدث وجعاً قريباً من وجع ذات الجنب الحقيقي ، إلا أن الوجع في هذا القسم ممدود ، وفي الحقيقي ناخس .

قال صاحب القانون : قد يعرض في الجنب ، والصفاقات ، والعضل التي في الصدر ، والأضلاع ، ونواحيها أورام مؤذية جداً موجعة ، تسمى شوصة وبرساماً ، وذات الجنب . وقد تكون أيضاً أوجاعاً في هذه الأعضاء ليست من ورم ، ولكن من رياح غليظة، فيظن أنها من هذه العلة ، ولا تكون منها . قال : واعلم أن كل وجع في الجنب قد يسمى ذات الجنب اشتقاقاً من مكان الألم ، لأن

معنى ذات الجنب صاحبة الجنب ، والغرض به ها هنا وجع الجنب ، فإذا عرض في الجنب ألم عن أي سبب كان نسب إليه ، وعليه حمل كلام بقراط في قوله : إن أصحاب ذات الجنب ينتفعون بالحمام . قيل : المراد به كل من به وجع جنب ، أو وجع رئة من سوء مزاج ، أو من أخلاط غليظة ، أو لذاعة من غير ورم ولا حمى .

قال بعض الأطباء : وأما معنى ذات الجنب في لغة اليونان ، فهو ورم الجنب الحار ، وكذلك ورم كل واحد من الأعضاء الباطنة ، وإنما سمي ذات الجنب ورم ذلك العضو إذا كان ورماً حاراً فقط .

ويلزم ذات الجنب الحقيقي خمسة أعراض : وهي الحمى والسعال ، والوجع الناخس ، وضيق النفس ، والنبض المنشاري .

والعلاج الموجود في الحديث ، ليس هو لهذا القسم ، لكن للقسم الثاني الكائن عن الريح الغليظة ، فإن القسط البحري – وهو العود الهندي على ما جاء مفسراً في أحاديث أخر – صنف من القسط إذا دق دقاً ناعماً ، وخلط بالزيت المسخن ، ودلك به مكان الريح المذكور ، أو لعق ، كان دواء موافقاً لذلك ، نافعاً له ، محللاً لمادته ، مذهباً لها ، مقوياً للأعضاء الباطنة ، مفتحاً للسدد ، والعود المذكور في منافعه كذلك .

قال المسبحي : العود : حار يابس ، قابض يحبس البطن ، ويقوي الأعضاء الباطنة ، ويطرد الريح ، ويفتح السدد ، نافع من ذات الجنب ، ويذهب فضل الرطوبة ، والعود المذكور جيد للدماغ . قال : ويجوز أن ينفع القسط من ذات الجنب الحقيقية أيضاً إذا كان حدوثها عن مادة بلغمية لا سيما في وقت انحطاط العلة ، والله أعلم .

وذات الجنب : من الأمراض الخطرة ، وفي الحديث الصحيح : عن أم سلمة ، أنها قالت : بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرضه في بيت ميمونة ، وكان كلما خف عليه ، خرج وصلى بالناس ، وكان كلما وجد ثقلاً قال : ” مروا أبا بكر فليصل بالناس ” ، واشتد شكواه حتى غمر عليه من شدة الوجع ، فاجتمع عنده نساؤه ، وعمه العباس ، وأم الفضل بنت الحارث وأسماء بنت عميس ، فتشاوروا في لده ، فلدوه وهو مغمور ، فلما أفاق قال : ” من فعل بي هذا ، هذا من عمل نساء جئن من ها هنا ، وأشار بيده إلى أرض الحبشة ، وكانت أم سلمة وأسماء لدتاه ، فقالوا : يا رسول الله ! خشينا أن يكون بك ذات الجنب . قال : فبم لددتموني ؟ قالوا : بالعود الهندي ، وشئ من ورس ، وقطرات من زيت . فقال : ما كان الله ليقذفني بذلك الداء ، ثم قال : عزمت عليكم أن لا يبقى في البيت أحد إلا لد إلا عمي العباس ” .

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق قال : ” ألم أنهكم أن تلدوني ، لا يبقى منكم أحد إلا لد غير عمي العباس ، فإنه لم يشهدكم ” .

قال أبو عبيد عن الأصمعي : اللدود : ما يسقى الإنسان في أحد شقي الفم ، أخذ من لديدي الوادي ، وهما جانباه . وأما الوجور : فهو في وسط الفم .

قلت : واللدود – بالفتح : – هو الدواء الذي يلد به . والسعوط : ما أدخل من أنفه .

وفي هذا الحديث من الفقه معاقبة الجاني بمثل ما فعل سواء ، إذا لم يكن فعله محرماً لحق الله ، وهذا هو الصواب المقطوع به لبضعة عشر دليلاً قد ذكرناها في موضع آخر ، وهو منصوص أحمد وهو ثابت عن الخلفاء الراشدين ، وترجمة المسألة بالقصاص في اللطمة والضربة ، وفيها عدة أحاديث لا معارض لها البتة ، فيتعين القول بها .

في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الصداع والشقيقة

روى ابن ماجه في سننه حديثاً في صحته نظر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صدع ، غلف رأسه بالحناء ، ويقول : ” إنه نافع بإذن الله من الصداع ” .

والصداع : ألم في بعض أجزاء الرأس أو كله ، فما كان منه في أحد شقي الرأس لازماً يسمى شقيقة ، وإن كان شاملاً لجميعه لازماً ، يسمى بيضة وخودة تشبيهاً ببيضة السلاح التي تشتمل على الرأس كله ، وربما كان في مؤخر الرأس أو في مقدمه .

وأنواعه كثيرة ، وأسبابه مختلفة . وحقيقة الصداع سخونة الرأس ، واحتماؤه لما دار فيه من البخار يطلب النفوذ من الرأس ، فلا يجد منفذاً فيصدعه كما يصدع الوعي إذا حمي ما فيه وطلب النفوذ ، فكل شئ رطب إذا حمي ، طلب مكاناً أوسع من مكانه الذي كان فيه ، فإذا عرض هذا البخار في الرأس كله بحيث لا يمكنه التفشي والتحلل ، وجال في الرأس ، سمي السدر .

والصداع يكون عن أسباب عديدة :

أحدها : من غلبة واحد من الطبائع الأربعة .

والخامس : يكون من قروح تكون في المعدة ، فيألم الرأس لذلك الورم لاتصال العصب المنحدر من الرأس بالمعدة .

والسادس : من ريح غليظة تكون في المعدة ، فتصعد إلى الرأس فتصدعه .

والسابع : يكون من ورم في عروق المعدة ، فيألم الرأس بألم المعدة للإتصال الذي بينهما .

والثامن : صداع يحصل عن امتلاء المعدة من الطعام ، ثم ينحدر ويبقى بعضه نيئاً ، فيصدع الرأس ويثقله .

والتاسع : يعرض بعد الجماع لتخلخل الجسم ، فيصل إليه من حر الهواء أكثر من قدره .

والعاشر : صداع يحصل بعد القئ والإستفراغ ، إما لغلبة اليبس ، وإما لتصاعد الأبخرة من المعدة إليه .

والحادي عشر : صداع يعرض عن شدة الحر وسخونة الهواء .

والثاني عشر : ما يعرض عن شدة البرد ، وتكاثف الأبخرة في الرأس وعدم تحللها .

والثالث عشر : ما يحدث من السهر وعدم النوم .

والرابع عشر : ما يحدث من ضغط الرأس وحمل الشئ الثقيل عليه .

والخامس عشر : ما يحدث من كثرة الكلام ، فتضعف قوة الدماغ لأجله .

والسادس عشر : ما يحدث من كثرة الحركة والرياضة المفرطة .

والسابع عشر : ما يحدث من الأعراض النفسانية ، كالهموم ، والغموم ، والأحزان ، والوساوس ، والأفكار الرديئة .

والثامن عشر : ما يحدث من شدة الجوع ، فإن الأبخرة لا تجد ما تعمل فيه ، فتكثر وتتصاعد إلى الدماغ فتؤلمه .

والتاسع عشر : ما يحدث عن ورم في صفاق الدماغ ، ويجد صاحبه كأنه يضرب بالمطارق على رأسه .

والعشرون : ما يحدث بسبب الحمى لاشتعال حرارتها فيه فيتألم ، والله أعلم .

وسبب صداع الشقيقة مادة في شرايين الرأس وحدها حاصلة فيها ، أو مرتقية إليها ، فيقبلها الجانب الأضعف من جانبيه ، وتلك المادة إما بخارية ، وإما أخلاط حارة أو باردة ، وعلامتها الخاصة بها ضربان الشرايين ، وخاصة في الدموي . وإذا ضبطت بالعصائب ، ومنعت من الضربان ، سكن الوجع .

وقد ذكر أبو نعيم في كتاب الطب النبوي له : أن هذا النواع كان يصيب النبي صلى الله عليه وسلم ، فيمكث اليوم واليومين ، ولا يخرج .

وفيه : عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد عصب رأسه بعصابة .

وفي الصحيح ، أنه قال في مرض موته : ” وارأساه ” وكان يعصب رأسه في مرضه ، وعصب الرأس ينفع في وجع الشقيقة وغيرها من أوجاع الرأس .

وعلاجه يختلف باختلاف أنواعه وأسبابه ، فمنه ما علاجه بالإستفراغ ، ومنه ما علاجه بتناول الغذاء ، ومنه ما علاجه بالسكون والدعة ، ومنه ما علاجه بالضمادات ، ومنه ما علاجه بالتبريد ، ومنه ما علاجه بالتسخين ، ومنه ما علاجه بأن يجتنب سماع الأصوات والحركات .

إذا عرف هذا ، فعلاج الصداع في هذا الحديث بالحناء ، هو جزئي لا كلي ، وهو علاج نوع من أنواعه ، فإن الصداع إذا كان من حرارة ملهبة ، ولم يكن من مادة يجب استفراغها ، نفع فيه الحناء نفعاً ظاهراً ، وإذا دق وضمدت به الجبهة مع الخل، سكن الصداع، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به ، سكنت أوجاعه ، وهذا لا يختص بوجع الرأس ، بل يعم الأعضاء ، وفيه قبض تشد به الأعضاء ، وإذا ضمد به موضع الورم الحار والملتهب ، سكنه .

وقد روى البخاري في تاريخه وأبو داود في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكى إليه أحد وجعاً في رأسه إلا قال له : ” احتجم ” ، ولا شكى إليه وجعاً في رجليه إلا قال له : ” اختضب بالحناء ” .

وفي الترمذي : عن سلمى أم رافع خادمة النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم قرحة ولا شوكة إلا وضع عليها الحناء .

والحناء بارد في الأولى ، يابس في الثانية ، وقوة شجر الحناء وأغصانها مركبة من قوة محللة اكتسبتها من جوهر فيها مائي ، حار باعتدال ، ومن قوة قابضة اكتسبتها من جوهر فيها أرضي بارد .

ومن منافعه أنه محلل نافع من حرق النار ، وفيه قوة موافقة للعصب إذا ضمد به ، وينفع إذا مضغ ، من قروح الفم والسلاق العارض فيه ، ويبرئ القلاع الحادث في أفواه الصبيان ، والضماد به ينفع من الأورام الحارة الملهبة ، ويفعل في الجراحات فهل دم الأخوين . وإذا خلط نوره مع الشمع المصفى ، ودهن الورد ، ينفع من أوجاع الجنب .

ومن خواصه أنه إذا بدأ الخدري يخرج بصبي ، فخضبت أسافل رجليه بحناء ، فإنه يؤمن على عينيه أن يخرج فيها شئ منه ، وهذا صحيح مجرب لا شك فيه . وإذا جعل نوره بين طي ثياب الصوف طيبها ، ومنع السوس عنها ، وإذا نقع ورقه في ماء يغمره، ثم عصر وشرب من صفوه أربعين يوماً كل يوم عشرون درهماً مع عشرة دراهم سكر ، ويغذى عليه بلحم الضأن الصغير ، فإنه ينفع من ابتداء الجذام بخاصية فيه عجيبة .

وحكي أن رجلاً تشققت أظافير أصابع يده ، وأنه بذل لمن يبرئه مالاً ، فلم يجد ، فوصفت له امرأة ، أن يشرب عشرة أيام حناء ، فلم يقدم عليه ، ثم نقعه بماء وشربه ، فبرأ ورجعت أظافيره إلى حسنها .

والحناء إذا ألزمت به الأظفار معجوناً حسنها ونفعها ، وإذا عجن بالسمن وضمد به بقايا الأورام الحارة التي ترشح ماء أصفر ، نفعها ونفع من الجرب المتقرح المزمن منفعة بليغة ، وهو ينبت الشعر ويقويه ، ويحسنه ، ويقوي الرأس ، وينفع من النفاطات ، والبثور العارضة في الساقين والرجلين ، وسائر البدن .

في هديه صلى الله عليه وسلم في معالجة المرضى بترك إعطائهم ما يكرهونه من الطعام والشراب ، وأنهم لا يكرهون على تناولهما

روى الترمذي في جامعه ، وابن ماجه ، عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب ، فإن الله عز وجل يطعمهم ويسقيهم ” .

قال بعض فضلاء الأطباء : ما أغزر فوائد هذه الكلمة النبوية المشتملة على حكم إلهية ، لا سيما للأطباء ، ولمن يعالج المرضى ، وذلك أن المريض إذا عاف الطعام أو الشراب ، فذلك لاشتغال الطبيعة بمجاهدة المرض ، أو لسقوط شهوته ، أو نقصانها لضعف الحرارة الغريزية أو خمودها ، وكيفما كان ، فلا يجوز حينئذ إعطاء الغذاء في هذه الحالة .

واعلم أن الجوع إنا هو طلب الأعضاء للغذاء لتخلف الطبيعة به عليها عوض ما يتحلل منها ، فتجذب الأعضاء القصوى من الأعضاء الدنيا حتى ينتهي الجذب الى المعدة ، فيحس الإنسان بالجوع ، فيطلب الغذاء ، وإذا وجد المرض ، اشتغلت الطبيعة بمادته وإنضاجها وإخراجها عن طلب الغذاء ، أو الشراب ، فإذا أكره المريض على استعمال شئ من ذلك ، تعطلت به الطبيعة عن فعلها ، واشتغلت بهضمه وتدبيره عن إنضاج مادة المرض ودفعه ، فيكون ذلك سبباً لضرر المريض ، ولا سيما في أوقات البحران ، أو ضعف الحار الغريزي أو خموده ، فيكون ذلك زيادة في البلية ، وتعجيل النازلة المتوقعة ، ولا ينبغي أن يستعمل في هذا الوقت والحال إلا ما يحفظ عليه قوته ويقويها من غير استعمال مزعج للطبيعة البتة ، وذلك يكون بما لطف قوامه من الأشربة والأغذية ، واعتدل مزاجه كشراب اللينوفر ، والتفاح ، والورد الطري ، وما أشبه ذلك ، ومن الأغذية مرق الفراريج المعتدلة الطيبة فقط ، وإنعاش قواه بالأراييح العطرة الموافقة ، والأخبار السارة ، فإن الطبيب خادم الطبيعة ، ومعينها لا معيقها .

واعلم أن الدم الجيد هو المغذي للبدن ، وأن البلغم دم فج قد نضج بعض النضج ، فإذا كان بعض المرضى في بدنه بلغم كثير ، وعدم الغذاء ، عطفت الطبيعة عليه ، وطبخته ، وأنضجته ، وصيرته دماً ، وغذت به الأعضاء ، واكتفت به عما سواه ، والطبيعة هي القوة التي وكلها الله سبحانه بتدبير البدن وحفظه وصحته ، وحراسته مدة حياته .

واعلم أنه قد يحتاج في الندرة إلى إجبار المريض على الطعام والشراب ، وذلك في الأمراض التي يكون معها اختلاط العقل ، وعلى هذا فيكون الحديث من العام المخصوص ، أو من المطلق الذي قد دل على تقييده دليل ، ومعنى الحديث : أن المريض قد يعيش بلا غذاء أياماً لا يعيش الصحيح في مثلها .

وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ” فإن الله يطعمهم ويسقيهم ” معنى لطيف زائد على ما ذكره الأطباء لا يعرفه إلا من له عناية بأحكام القلوب والأرواح ، وتأثيرها في طبيعة البدن ، وانفعال الطبيعة عنها ، كما تنفعل هي كثيراً عن الطبيعة ، ونحن نشير إليه إشارة ، فنقول : النفس إذا حصل لها ما يشغلها من محبوب أو مكروه أو مخوف ، اشتغلت به عن طلب الغذاء والشراب ، فلا تحس بجوع ولا عطش ، بل ولا حر ولا برد ، بل تشتغل به عن الإحساس المؤلم الشديد الألم ، فلا تحس به ، وما من أحد إلا وقد وجد في نفسه ذلك أو شيئاً منه ، وإذا اشتغلت النفس بما دهمها ، وورد عليها ، لم تحس بألم الجوع ، فإن كان الوارد مفرحاً قوي التفريح ، قام لها مقام الغذاء ، فشبعت به ، وانتعشت قواها ، وتضاعفت ، وجرت الدموية في الجسد حتى تظهر في سطحه ، فيشرق وجهه ، وتظهر دمويته ، فإن الفرح يوجب انبساط دم القلب ، فينبعث في العروق ، فتمتلئ به ، فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها ، وإلى الطبيعة منه ، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب ، آثرته على ما هو دونه .

وإن كان الوارد مؤلماً أو محزناً أو مخوفاً ، اشتغلت بمحاربته وققاومته ومدافعته عن طلب الغذاء ، فهي في حال حربها في شغل عن طلب الطعام والشراب . فإن ظفرت في هذا الحرب ، انتعشت قواها ، وأخلفت عليها نظير ما فاتها من قوة الطعام والشراب وإن كانت مغلوبة مقهورة ، انحطت قواها بحسب ما حصل لها من ذلك ، وإن كانت الحرب بينها وبين هذا العدو سجالاً ، فالقوة تظهر تارة وتختفي أخرى ، وبالجملة فالحرب بينهما على مثال الحرب الخارج بين العدوين المتقاتلين ، والنصر للغالب ، والمغلوب إما قتيل ، وإما جريح ، وإما أسير .

فالمريض : له مدد من الله تعالى يغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم ، وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل ، فيحصل له من ذلك ما يوجب له قرباً من ربه ، فإن العبد أقرب ما يكون من ربه إذا انكسر قلبه ، ورحمة ربه عندئذ قريبة منه ، فإن كان ولياً له ، حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته ، وتنتعش به قواه أعظم من قوتها ، وانتعاشها بالأغذية البدنية ، وكلما قوي إيمانه وحبه لربه ، وأنسه به ، وفرحه به ، وقوي يقينه بربه ، واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه ، وجد في نفسه من هذه القوة ما لا يعبر عنه ، ولا يدركه وصف طبيب ، ولا يناله علمه .

ومن غلظ طبعه ، وكثفت نفسه عن فهم هذا والتصديق به ، فلينظر حال كثير من عشاق الصور الذين قد امتلأت قلوبهم بحب ما يعشقونه من صورة ، أو جاه ، أو مال ، أو علم ، وقد شاهد الناس من هذا عجائب في أنفسهم وفي غيرهم .

وقد ثبت في الصحيح : عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يواصل في الصيام الأيام ذوات العدد ، وينهى أصحابه عن الوصال ويقول : ” لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني ” .

ومعلوم أن هذا الطعام والشراب ليس هو الطعام الذي يأكله الإنسان بفمه ، وإلا لم يكن مواصلاً ، ولم يتحقق الفرق ، بل لم يكن صائماً ، فإنه قال : ” أظل يطعمني ربي ويسقيني ” .

وأيضاً فإنه فرق بينه وبينهم في نفس الوصال ، وأنه يقدر منه على ما لا يقدرون عليه ، فلو كان يأكل ويشرب بفمه ، لم يقل لست كهيئتكم ، وإنما فهم هذا من الحديث من قل نصيبه من غذاء الأرواح والقلوب ، وتأثيره في القوة وإنعاشها ، واغتذائها به فوق تأثير الغذاء الجسماني ، والله الموفق .

ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم ، فيكون الحديث من العام المخصوص ، ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد ، وتلك التربة الخاصة من كل سم ، ولكن ها هنا أمر لا بد من بيانه ، وهو أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله ، واعتقاد النفع به ، فتقبله الطبيعة ، فتستعين به على دفع العلة ، حتى إن كثيراً من المعالجات ينفع بالإعتقاد ، وحسن القبول ، وكمال التلقي ، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب ، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له ، وتفرح النفس به ، فتنتعش القوة ، ويقوى سلطان الطبيعة ، وينبعث الحار الغريزي ، فيساعد على دفع المؤذي ، وبالعكس يكون كثير من الأدوية نافعاً لتلك العلة ، فيقطع عمله سوء اعتقاد العليل فيه ، وعدم أخذ الطبيعة له بالقبول ، فلا يجدي عليها شيئاً . واعتبر هذا بأعظم الأدوية والأشفية ، وأنفعها للقلوب والأبدان ، والمعاش والمعاد ، والدنيا والآخرة ، وهو القرآن الذي هو شفاء من كل داء ، كيف لا ينفع القلوب التي لا تعتقد فيه الشفاء والنفع ، بل لا يزيدها إلا مرضاً إلى مرضها ، وليس لشفاء القلوب دواء قط أنفع من القرآن ، فإنه شفاؤها التام الكامل الذي لا يغادر فيها سقماً إلا أبرأه ، ويحفظ عليها صحتها المطلقة ، ويحميها الحمية التامة من كل مؤذ ومضر ، ومع هذا فإعراض أكثر القلوب عنه ، وعدم اعتقادها الجازم الذي لا ريب فيه أنه كذلك ، وعدم استعماله ، والعدول عنه إلى الأدوية التي ركبها بنو جنسها حال بينها وبين الشفاء به ، وغلبت العوائد ، واشتد الإعراض ، وتمكنت العلل والأدواء المزمنة من القلوب ، وتربى المرضى والاطباء على علاج بني جنسهم وما وضعه لهم شيوخهم ، ومن يعظمونه ويحسنون به ظنونهم ، فعظم المصاب ، واستحكم الداء ، وتركبت أمراض وعلل أعيا عليهم علاجها ، وكلما عالجوها بتلك العلاجات الحادثة تفاقم أمرها ، وقويت ، ولسان الحال ينادي عليهم :

ومـــن العجــائب والعجــائب جمة قـرب الشفاء وما إليه وصول

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول

* الطب النبوي من كتاب زاد المعاد للإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية.