منوعات

قصة اول “طابعة بريد ” سودانية

[JUSTIFY]البمباشي ويليام بايام (William Bayam) وقصة طابعة «الجمل» السودانية من الحقائق التاريخية أن الخدمة الطبية في السودان الحديث بدأها أفراد السلاح الطبي الملكي البريطاني عشية الحكم الثنائي في العام 1898م ومن أبكار هؤلاء الرواد الكابتن «ويليام بايام» المولود في الهند في العام 1882 م. ويليام بايام خلده التاريخ كمكتشف لجرثومة «حمى الخندق» وخلد نفسه بكتابة سيرته الذاتية في كتابين بعنوان «الطريق الى هارلي ستريت» و«دكتور بايام في هارلي ستريت» اللذان أفسح فيهما مجالاً واسعاً لسرد أيامه الخوالي في السودان.
من مفارقات الزمان أن علاقة دكتور بايام بالسودان بدأت وهو لم يزل طفلاً يافعاً لم يتجاوز الأعوام الثلاثة ونيف حينما كان في رفقة والده الضابط في الجيش البريطاني، وبينما هما يبحران عباب المحيط الهندي في طريقهما الى بريطانيا صدرت الأوامر لتلك الفرقة بالتوجه الى سواكن لمساندة الحامية العسكرية هناك التابعة لحكومة السودان التركي المصري إبان حصار الخرطوم في مطلع العام 1885م. تم إنزال الفرقة في مرسى ترنكتات القريب من سواكن وانضم بايام الأب الى قوات السير جيرالد جراهام التي التحمت مع مجاهدين عثمان دقنة في معركتي «التيب» و«تاماي»، تلكما المعركتان الشهيرتان اللتان خلدهما الشاعر البريطاني الفذ رديارد كبلنج (Rudyard Kipling) حين امتلأت نفسه بالإعجاب بمقاتلي الهدندوة وخلدهم في إحدى قصائده المشهورة حيث قال:
قاتلنا كثيراً من الرجال عبر البحار
وكان منهمو الشجعان وكان منهمو دون ذلك
من رجال الباثان والزولو وأهل بورما
لكن البجا هم خيرهم على الإطلاق..
همو وحدهم الذين كسروا مربع
الإنجليز في سواكن…
بايام الصغير نشأ نحيلاً كثير الإعياء ولكنه كان حاد الذكاء وكثير السؤال والاستفسار مما حدا بأمه بأن تلقبه بـ«مستر لماذا لماذا» (Mr. Why, Why) درس بايام الطب في مدرسة سان جورج الطبية في جنوب لندن وكان أول دفعته حاصداً العديد من الجوائز والأوسمة. التحق بعد التخرج بالقوات الطبية الملكية وكان منذ أيام دراسته وعمله مفتوناً بالسير باتريك مانسون أبو طب المناطق الحارة الذي كان أحد أساتذته في سانت جورج. وفي العام 1906م أرسل الضابط اليافع دكتور بايام الى مصر حيث عمل في المستشفى الكائن في قلعة محمد علي في القاهرة حتى العام 1908م حين كلف للقيام بمهمة إسعاف حاكم كسلا الذي أصيب بمرض ألزمه الفراش لشهور وبعد انتهاء هذه المهمة انتدب من قبل قائد السلاح الطبي المصري حينها د. استيفن لايل كمنز لكي ينضم الى الجيش المصري، وابتعث مرة اخرى الى السودان هذه المرة ليعمل هنالك خلفاً لدكتور ليورنارد باوسفيلد طبيب مستشفى كسلا العسكري، ولايل كمنز وليونارد باوسفيلد من الأطباء المميزين اللذين عملا في السودان لسنوات عدة ولسيرتهما لنا عودة.
إبان التحضير لذهابه الى السودان سافر بايام الى لندن حيث قضى عدة أشهر مع الكولونيل جون ليشمان مكتشف طفيل الليشمانيا «الكلازار» الذي سُمى المرض باسمه. أسهمت علاقته الأولى بسير باتريك مانسون وجون ليشمان في تقوية عوده للعمل في مناطق شرق ووسط السودان حيث تكثر الملاريا والكلازار.
سطر يراع ويليام بايام عهده الزاهر في السودان في سيرته الذاتية التي كتبها وهو في خريف العمر على أعتاب الشيخوخة وقبل وفاته بسنوات لا غرو وأنه ذو قلم ساحر ينضح بالبيان والاستبيان.
قضى ويليام بايام أيامه الأولى في كسلا «التي أشرقت بها شمس وجدي» وكان من حسن تطبيبه لمرضاه وهو النطاسي البارع مما حدا بالسيد علي الميرغني الذي كانت تربطه به صلة صداقة وود أن يهديه جواداً عربياً أصيلاً أسماه «سنود قراس» (Snood Grass) كان له خير معين في أسفاره الطبية خارج كسلا.
خطط د. بايام لمشروع خلاق توج بإبادة البعوض واستئصال الملاريا في كسلا مما يدعو جهابذة الصحة العامة في يومنا هذا ان ينظروا اليه بعيني الإعجاب والحسد ومن محاسن الصدف ان تزامن مشروعه مع مشروع دكتور أندرو بلفور مدير معمل ويلكم للأبحاث وضابط الصحة في الخرطوم الذي أفلح في إبادة جحافل البعوض في خرطوم «ود الأمين» في مطلع القرن الأخير من الألفية الثانية للميلاد. أشرف د. بايام كذلك على المستشفى العسكري في القضارف «وهذه لها في نفسي لواعج وشجون» وأسهم في إنشاء أول العنابر في ذلك المستشفى ومن إنجازاته كذلك إنشاء مصحة لعلاج مرض الجزام في القلابات مما يعرف في قواميس الطب بمستعمرة الجزام، وهذه سابقة لما يعرف بحوش الجزام في أبي روف بأم درمان. والجدير بالذكر انه استعان في تأسيسها بحكام القلابات الذي رصد له بعض المبالغ «بالعون الذاتي» وكذلك استعان بوالدته في بريطانيا كي تسهم معه ببعض الأموال حيث لم يكن لدى حكومة السودان أولوية لمثل هذه الخدمة في بدايات الحكم الاستعماري، ولم تخذله والدة «مستر لماذا لماذا ».
انتقل د. بايام في العام 1911م الى الخرطوم مترقياً لوظيفة مفتش طبي الخرطوم «عموم» حيث علق على خبر تعيينه وترقيته أنه سوف يصير «بي» وله «ماهية لورد». أشرف بايام إبان عمله في الخرطوم على مستشفى النهر التابع حينها للجيش المصري وما لبث ان غادر السودان نهائىاً في العام 1913م قبيل إندلاع الحرب العالمية الأولى حيث كان له من البحوث الطبية إبان الحرب شأن آخر توّجه باكتشاف البكتريا المسببة لحمى الخندق التي سببت صداعاً مستمراً وهماً كبيراً إبان الحرب العظمى.
أضاف بايام كذلك إسهاماً آخر حين ألف سوياً مع زميله وصديقه إبان عمله في السودان السير روبرت ارشيبالد احد المراجع الرئىسية في طب المناطق الحارة، وسير ارشيبالد من الأطباء المرموقين الذي عمل في السودان قرابة الثلاثين عاماً وهو من أعلام طب المناطق الحارة وآخر مدير لمعمل ويلكم للأبحاث في الخرطوم وأستاذ وصديق بروفيسور منصور علي حسيب أول إختصاصي سوداني في علم الميكروبات وأول محاضر سوداني لها في مدرسة كيتشنر الطبية وأول عميد سوداني لكلية طب جامعة الخرطوم.
علاقة ويليام بايام بالسودان لم تنقطع وجدانياً حتى بعدما صارت له عيادة مرموقة في شارع هارلي ستريت في لندن يؤمها الكثير من علية القوم و نبلاء أوروبا في عشرينيات القرن الماضي، وإبان التحضيرات لبناء خزان سنار «مكوار» وتجهيز مشروع الجزيرة نما الى علم دكتور بايام ان الترتيبات لنقل أفواج جرارة من العمال المصريين الى السودان للعمل في خزان مكوار وشق الترع الرئىسية في مشروع الجزيرة الوليد، خشى د. بايام من انتقال طفيل البلهارسيا الى منطقة الجزيرة وهو الخبير في المجال ولا يشق له غبار وكان ان اتخذ موقفاً أخلاقياً يسطره له التاريخ في أهمية عمل التحوطات اللازمة لأن يكون هؤلاء العمال المصريين خالين من طفيل البلهارسيا العضال، حينما اتضح له ان ما تم على أرض الواقع غير ذلك.مضى د. بايام حثيثاً يكتب المقالات ويحشد جهابذة اللوردات وأقطاب الصحة العامة وأعضاء مجلس البحوث الطبية في لندن ويدق ناقوس الخطر منبهاً أن الخطر الماحق يحدق بالصحة العامة في السودان ومشروع الجزيرة بالأخص، ومشدداً بضرورة عمل كل الترتيبات اللازمة لأن يكون العمال المبتعثون خالين من البلهارسيا ولكن هيهات هيهات رغماً عن التحوطات التي عملت في كرنتينة وادي حلفا فقد وقع المحذور وصارت أرض الجزيرة مرتعاً خصباً لوباء البلهارسيا الى يومنا هذا.
عذراً ولطفاً سادتي معشر القراء في استرسالي ولكنها حقائق أولى ببني وطني ان يدركوا ما هنالك في أضابير تراثنا الطبي وما اتصل به. دعوني انتقل الى سرد قصة د. بايام مع أول طابعة سودانية «طابعة الجمل». ورب سائل يسأل عما هي علاقة د. بايام بأيام طابعة الجمل؟
كان للدكتور بايام هواية في جمع الطوابع ومعرفة أسرارها وخبايا تصاميمها وأسهم في العام 1935م في تأسيس جمعية الطوابع المصرية في القاهرة وفي هذه الزاوية قام د. بايام بجهد جهيد في معرفة قصة أول طابع سوداني وقام بسرد تلك القصة في احد فصول الكتاب الثاني من سيرته الذاتية بعنوان «دكتور بايام في هارلي ستريت»وهذا الفصل يحمل عنوان: «طوابع الجمل السودانية». ومن سخريات القدر ان القصة أعيد سردها في مجلة هواة الطوابع الكندية في العام 1964م بعد وفاة د. بايام بشهور من باب التأبين وذكر المناقب. نورد هنا ترجمة للمقال المنشور كما ذكر أعلاه.
«على أوائل عهدي في السودان بذلت محاولات جادة لتكوين فكرة عامة عن بدايات الطوابع في السودان وكان أن أفلحت في جمع بعض الطوابع التي كانت مستعملة على أيام غردون باشا، حينها كانت الطوابع المصرية هي وحدها المتداولة في السودان وكان دليلي على ذلك اختام مدن السودان على هامش هذه الطوابع. بعدها نجحت في تتبع خطى البريد المتداول إبان حملة كتشنر لإعادة فتح السودان عن طريق الحصول على رسائل أفراد الجيش البريطاني المشاركين في الحملة. كانت بعض هذه الرسائل تحمل عبارات «لا توجد طوابع» وبعضها يحمل خطى تطور بناء خط السكة الحديدية من حلفا عندما كانت تحمل كتابة مسؤولي البريد تفيد بأنها أرسلت من نقاط إنشاء الخط. ومر حين من الزمان ابان تلك الحملة حينما كانت بعض الرسائل تحمل طوابع مصرية كتب على جانبها «السودان» وفي هذه الحالة الأخيرة كان السردار «كتشنر» معارضاً لهذا الاستعمال لأنه كان يود أن يتجنب كل ما له «صبغة سياسية»، مردداً بقوله: «استعمال الطوابع المصرية في الخطابات المرسلة من الجنود يوحي بأن الحملة هدفها جعل السودان جزءاً من مصر»، وهو ما كان يعارضه بشدة . لذا كلف اللورد كتشنر الكولونيل «جيمي واتسون» من أفراد طاقمه الشخصي بالسعي للحصول على تصاميم لطوابع تتداول إبان الحملة مشدداً على ألا تستخدم صورته الشخصية في هذه التصاميم، وكذلك ألا يحتوي التصميم على أية مادة دعائىة. قام الكولونيل واتسون بالاتصال بأحد الرسامين الذي كان يعمل في وظيفة مراسل لأحدى الجرايد البريطانية لأداء المهمة. الأخير صمم طابعة تحمل صورة معبد أبوسمبل وتمثال رمسيس وتحت التصميم وضع الرسام سطراً يفيد أن ثمن التصميم عشرون جنيهاً. كان تعليق كتشنر على التصميم وقيمته بالرفض الفوري. حينها قام الكولونيل واتسون بتكليف البمباشي استانتون لعمل تصاميم «لطابعة السودان» ذاكراً له أن السردار يأمره بتسليم التصميم خلال أربعة أيام حسوماً. حينها كان الكولونيل استانتون في أحد الفرق التابعة للجيش المصري وكذلك يعمل مراسلاً غير متفرغ لجريدة الأخبار المصورة اللندنية. أصيب كولونيل استانتون بالذهول المصحوب بالدهشة وأسقط في يده ولم يدر ماذا يفعل لأنه لم يكن له أي سابق خبرة في عمل التصاميم وكلما كان يملك من أدوات الرسم لم يتعدى بضع قطع من فرش الرسم المائي وبعض ورق «الفلوسكاب». جلس كولونيل استانتون المسكين «غضبان أسفاً» وتملكه شعور بالاكتئاب إذ أدرك ان فشله في إرضاء السردار ربما يترتب عليه ان تنهى خدمته في الحملة. وبينما هو في حيرته جالس يترقب، تناول آخر أعداد جريدة الأخبار المصورة اللندنية يقلب صفحاتها وإذا به يلمح صورة إعلان من أحد محلات السجاد المشهورة في لندن وبه صورة جمل محمل بأعداد من السجاد. عندما تنفس استانتون المسكين الصعداء واستوحى فكرة الجمل كمادة لعمل تصميم طابعة البريد المنشودة. خرج استانتون لتوه من خيمته وكأن به يصيح مثل أرخميدس «وجدتها وجدتها». حمل استانتون كاميرا التصوير وترجى أحد أفراد الفرقة السودانية بأن يمتطي ظهر جمله و أن يدفع الجمل لكي يسير لمسافة خطوات حتى يتسنى له ان يلتقط صورة للاعرابي وهو على ظهر الجمل وأرجل الجمل متباعدة كمن يسير الهيدباء. خرج التصميم الذي صار فيما بعد أول طابعة سودانية وهو يحمل صورة ساعي البريد يمتطي جمل يسير وسط فيافي الصحراء ومن خلفه بعض الجبال المنخفضة وعلى جانب الجمل أحمالاً تمثل البريد كتب عليها اسمي بربر والخرطوم ومن خلف الراكب تظهر حربتان. كان هذا هو التصميم الرئيسي وتحته تصاميم أصغر مع بعض الاختلافات الطفيفة.
حمل استانتون التصميم حينها لكتشنر الذي وافق عليه بدون ان يبدي أي تعليق، وكذلك بدون ثناء أو إطناب. أمر كتشنر الكولونيل استانتون بأن يأخذ التصميم بنفسه الى انجلترا ويشرف على إخراجه شخصياً مع الشركة العالمية المتخصصة حينها في عمل الطوابع في لندن السادة «دي لارو» (Messers. De La Rou).
حينما عاد كولونيل استانتون الى موقعه في الحملة طلب من الكولونيل جيمي واتسون ان يطلب الإذن من كتشنر بأن يمهر بتوقيعه على تصاميم جديدة نفذها واتسون من باب ان يثبت أنه هو صاحب التصاميم، «براءة إختراع». وافق كتشنر على الطلب ولكنه قال لواتسون: « يجب أن تتأكد أن استانتون يتحمل تكلفتها المالية».
هذه القصة رواها لي الكولونيل استانتون حينما زرته في منزله في غرب انجلترا وأراني التصاميم الأصلية التي عملها وهي تحمل توقيع كتشنر وقد وضعت حينها في برواز وعلقت على الحائط في حمام المنزل ولحظت أن البخار الذي يتصاعد من البانيو قد فعل فعلته في حبر دي لارو الشارد. انتهى.
هذا ما كان من أمر قصة أول طابعة الجمل السودانية التي علق عليها دكتور بايام في كتابه بأنها الطابعة والتصميم الذي ظل متداولاً لأطول فترة عرفت في تاريخ الطوابع في العالم. والجدير بالذكر ان الكولونيل استانتون صار فيما بعد حاكماً للخرطوم.

الراي العام
[/JUSTIFY]

تعليق واحد