تحقيقات وتقارير
دارفور الشجرة التي تخفي ورائها كل ضباع الغابة الأفريقية
وترهيب الدول العظمى للدول الصغرى أصبح مبدأ، حسب المفاهيم العولمية التي تشي بحقيقة أن العالم الليبرالي والديمقراطي الغربي أضحى انتقائيا في دعمه للعديد من الأنظمة الدكتاتورية ورفضه في ذات الوقت لأخرى، والغرب بقيادة الولايات المتحدة يزكي بعض أنظمة العالم الثالث التي انخرطت في العملية الديمقراطية ويسكت عن كل أشكال التزوير والممارسات القمعية ضد الخصوم في الوقت الذي يشهر بدول أخرى ويطلب مراقبة صارمة عليها وعلى مؤسساتها، وتحت سيف قوانين العقوبات الدولية والبند السابع يِمارس الإرهاب بعينه و بوجه آخر ضد بعض الدول التي تخرج عن عصا الطاعة للامبريالية الجديدة.
الأمثلة كثيرة حول تطبيقات ازدواجية المعايير في القانون الدولي لدى الدول “المتفرعنة” على الكون كله، وعلى الدول الأضعف منها اقتصاديا وعسكريا. نتساءل أين هي الدول: مثل العراق والصومال وفلسطين وأفغانستان؟ التي باتت دولا منسية؛ بل ملغاة من الحضور الدولي والإنساني ونهبا للتقسيم على يد قضاة العالم الجديد ومن دون ان يحاسب ويعاقب هذا القانون الدولي متسببي مئآسي الاستعمار والغزو ومشعلي الحروب الأهلية ومتسببي المجاعات والهجرات الجماعية عن بلدانهم. ألم تكن كل هذه الجرائم من صنائع الاستعمار وسياساته العسكرية والاقتصادية والتي فاقت جرائم الحرب والإبادة الجماعية الموصوفة في لوائح المدافعين عن حقوق الإنسان.
وهناك دول أخرى مرشحة للعقوبات، إن لم ترعوي بالطاعة والخضوع أمام عصا الامبرياليين الجدد مثل كوريا الشمالية وزمبابوي وإيران والسودان.
لا حاجة للمحكمة الجنائية أن تشغل ممثلي الادعاء العام لإيجاد المبررات، والحجج المطلوبة لإدانة الهدف المطلوب للمحاكمة سواء كان، دولة، حزبا، مؤسسة، أو فردا، فالقانون الدولي يتم تكييفه وفق الطلب الأمريكي ورغبات البيت الأبيض لمعاقبة هذا المتمرد أو ذاك. إن العولمة، من خلال الممارسات الأمريكية وحلفائها، تسحق مؤسسات الدول الفتية، وتفرض قوانينها الفوقية باسم المجتمع الدولي بشكل تعسفي، بل إنها تفتعل وتشكل هيئات محاكمها وتنصب قضاتها، تحت أسماء ومسميات وعناوين مختلفة مثل المحكمة الجنائية الدولية. ومحكمة العدل الدولية… وغيرها، أما الجناة المطلوب إدانتهم فهم من عناصر العينة الانتقائية المطلوبة أمريكيا من قادة وأبناء العالم الثالث.
لا حاجة للتذكير أن هذه المحكمة ومثيلاتها لا تحتاج أن تجمع قرائن الإدانة لأمثال صدام حسين حبا وتعاطفا بشيعة حادثة الدجيل، ولا مع أكراد حلبجة في العراق، لولا أن الأرض العراقية التي كان يقف فوقها الرئيس الراحل صدام حسين هي عبارة عن بحيرة نفط لا ينضب في المدى القريب. وعلى نفس المعيار ما كان الرئيس السوداني عمر حسن البشير مطلوبا أيضا لمثل هذه المحكمة؛ لو أن دارفور والسودان عبارة عن أرض قفار خالية من رغيف الخبز وخزين احتياطات البترول الذي يسارع التنين الصيني أن يصل إليه منافسا اقتصاديا نزيها ولوضع اليد عليه قبل وصول أيادي النهب الأمريكي من شركات نفط المحافظين الجدد. إن القارة الجائعة منسية حقوقيا عندما يتعلق الأمر بممارسات صندوق النقد الدولي وممارساته الربوية في تفقير وتجويع البلدان الأفريقية والنامية.
إن دارفور، تعني لهم قبل كل شيء، الموقع الجغرافي، ومدخرات الأرض من اليورانيوم والنفط والغاز مستقبلا، ودارفور واجهة إعلامية للتباكي وتوزيع الصدقات من الأغذية المعدلة جينيا، وهي المرصودة في كاميرات الغرب في صورة من الجياع والعراة الذين يتقاتلون من أجل لا شيء متناسين فعل أوضاع التخلف والأمراض وغياب الدولة في الخرطوم. هذه دارفور بكل صورها المتكررة يوميا، هل فعلا حركت ضمير مجلس الأمن وشجعت أمثال مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية الأرجنتيني “لويس مورينو اوكامبو” لكي يشغل نفسه منذ 2005 والى الآن ليلاحق أخيرا الرئيس السوداني عمر حسن البشير وبضعة من أعوانه بتهمة الإبادة الجماعية؟، أم أن دارفور هذه مجرد شجرة أفريقية تقع غرب السودان، رغم هزالتها، فان التبصر بمعطياتها يكتشف خلفها حشود من الامبرياليين الجدد، هناك تكمن ضباع وذئاب البترول واليورانيوم والغابات والأراضي الزراعية الصالحة للزراعة، والتي يمكن أن تحل مشاكل المجاعة للسودان ولغيرها من الدول الأفريقية لو أحسنت العدالة الدولية الاقتصادية الاستثمار فيها لصالح البشر.
بالأمس مر حبل المشنقة في غابات الضباع الامبرياليين ما بين دجلة والفرات، مر على رقبة الرئيس صدام حسين، وتم بذلك إعدام العراق كله، بما فيه من دولة ومؤسسات وشعب حكم عليه الأمريكيون بأن يتشرد ويتمزق، وبمثله تمت تصفية “سلوبودان ميلوسيفتش” بالسم البطئ في قاعة المحكمة الجنائية الدولية وتقسمت معه يوغسلافيا شذر مذر، وعلى ذات المسار يتباكى نفس القتلة على حقوق دارفور من دون غيرها اليوم، لكي يجزأ السودان أيضا، ويفقد العرب سلة مستقبل غذائهم التي أهملوها وتركوها نهبا للتدخلات الأجنبية وساحة للصراعات المحلية ولكي تصبح اكبر دولة افريقية في مهب الريح معرضة للاهانة السياسية والدبلوماسية بشخص رئيسها عمر حسن البشير، وهكذا دواليك سيتكرر المشهد على القذافي والأسد وعلى عبد الله صالح ونجاد…وغيرهم؟ فهل سنتعظ من قراءة دساتير وقوانين وعدالة المحاكم الدولية.؟
إن هذه السوابق وغيرها تعلمنا حقيقة أننا نعيش شهودا في زمن انبعاث كولونيالي موحش، وان البشير وغيره لا تنقذه الإدانات والبيانات والتصريحات وملتقيات وزراء الخارجية العرب، بل علينا أن ندرك، كما علمتنا تجربة كوبا وكوريا الشمالية والفيتنام أن من يريد أن يكون قائدا فليحتمي بشعبه، وبنفس المعيار نقول: أن هناك شعب سوداني، ومعه أشقاء عرب ومسلمين ولهم هيئات ودول تمثلهم. وان القطيعة التامة مع أمثال هذه المؤسسات الدولية المصطنعة لخلق الأزمات، سيعلمها أنها ليست هيئات نزيهة طالما أنها صنيعة لأهداف مبيتة سلفا وأنها تكيل معنا بمكيالين، واحد يميل كليا للسياسة الأمريكية وحلفائها وآخر فارغ، للعرب والمسلمين وغيرهم ممن رفضوا الركوع لضباع الغابة ووحوشها.
وإذا ما وقف كل من “اولمرت” و”بوش” و”ديك شيني” “ورامسفيلد” و”شارون” و”رايس” و”أولبرايت” وجنرالات البنتاغون وجلادي معتقلات أبي غريب وبوكا وغوانتينامو ومجرمي مجازر ملجأ العامرية وحديثة والفلوجة وتلعفر في العراق ومجازر الصهاينة في دير ياسين وغزة وصبرا وشاتيلا وقانة الأولى والثانية في فلسطين ولبنان أمام المسائلة القانونية للاقتصاص العادل عن جرائمهم وعما تلوثت به أياديهم القذرة من جرائم يندى لها الجبين الإنساني، فإننا عندئذ سنسلم طوعا كل من نشك به قاتلا أو مختلسا أو سارقا أو جلادا وندفعه بقناعتنا بالعدل لأخذ جزاءه العادل أمام هذه المحكمة أو تلك.
وعندما تجتمع الجامعة العربية في القاهرة فنحن نستغرب أيضا لماذا هذا الصمت الإعلامي لممثليها؟ أم أن القضية تحتاج إلى مشاورة الملحق الإعلامي للسفارات الأمريكية والغربية في هذه العاصمة أو تلك لتطلب رأس البشير ولو إعلاميا لأنها تعرف مسبقا أن السودان، الدولة والمجتمع والشعب له من الكرامة الوطنية والعزة القومية ما يجعله يرفض تسليم أي من أبنائه للجناة الامبرياليين الجدد فكيف لو كان المطلوب للتسليم رئيسا عربيا وأفريقيا ومسلما لازال العالم يراه شامخا بسحنته السمراء ويرفع عكازه المميز ويصرخ بأعلى صوته في مثل هذه المواقف لا للذل ولا للخضوع والابتزاز.
أ.د. عبد الكاظم العبودي : (smc)[/ALIGN]