سيرة وطن في مسيرة زول (12)

تذكرت ذلك المدرس الذي كان يضربنا – فعلا لا مجازا – بالجزمة القديمة، بعدما التحقت بمدرسة وادي سيدنا الثانوية “الأصلية”، وهي التي استولى عليها العسكريون وحولوها الى كلية حربية وقاعدة جوية، وكان من سعد طالعنا ان يدرسنا الأدب العربي الاستاذ الهادي أحمد محمد صالح، وكان شاعرا، وكان أبوه هو الشاعر الذي يحفظ له ابناء السودان أجمل القصائد الوطنية، ومن بينها النشيد الوطني السوداني، وكان يوما ما عضوا في مجلس السيادة،.. لم يكن الهادي يقف على رجليه قط في غرفة الدراسة، بل كان يسحب كرسيا ويجلس عليه فور دخوله الغرفة، ويقدم دروسه بصوت خفيض، وكانت تعابير وجهه تدل على أنه يحس بالقرف ويدرس “من غير نفس”.. كان يدرسنا المنهج المحدد وعلامات الإحساس بالضيق بادية على وجهه، وكنا ننصت بأدب لكل ما يقوله لأنه كان دائم “التخريم” خارج المقرر ليقول لنا كلاما جميلا عن شعراء وأدباء لم نسمع بمعظمهم،.. واستطيع ان أجزم بأنه بقي في وادي سيدنا عدة سنوات من دون ان يحفظ اسم طالب واحد فيها، ولم يحدث قط ان نهر او زجر طالبا، ولم تكن به حاجة الى ذلك لأننا كنا نجلس في حضرته مهذبين مؤدبين “على غير العادة”، واستمعت اليه ذات مرة في ندوة أدبية في ام درمان وعرفت سر القرف الذي كان يبدو عليه أثناء تدريس الأدب، فقد شن هجوما قويا وبارعا على منهج الأدب العربي في المدارس الثانوية ووصفه بالجمود و”انعدام الأدب”.
ودرسنا الأدب أيضا في تلك المدرسة على يد الشاعر محمد محمد علي، ابن “حلفاية الملوك”، وكان رجلا مرهف الحس يندمج أحيانا في التدريس – وكان استاذا ايضا في فن الزوغان وتجاهل المقرر مما كان يلقى استحساننا – يندمج في التدريس ولا يلتفت الى الجرس الذي يعلن نهاية حصته، فيظل يتكلم وهو يلوح بيديه، فيضطر مدرس الحصة التالية الى العودة الى مكتبه لأنه كان يعرف ان الشاعر (وكان ذلك الاسم الذي ننادي به استاذنا محمد محمد علي) لن يخرج من “الفصل” ما لم يكمل ما بدأه من كلام،.. وبعكس زميله وصديقه الهادي احمد محمد صالح كان “الشاعر” سريع الانفعال وكان أكثر ما يخرجه عن طوره صدور صوت نشاز كذاك الناجم عن احتكاك كرسي مع البلاط،.. وازددت حبا لمحمد محمد علي بعد ان عرفت انه مثلي يكره القطط ومازلت احتفظ بمقال له نشره في صحيفة بعنوان “لماذا أكره القطط؟”.
لم يأت الدور على سيرة المرحلة الثانوية بعد، فمازلت في وطني الصغير بدين:
تمثل آخر إسهام لحكومة الخرطوم في تقديم الخدمات لسكان جزيرة بدين، في بناء مدرسة بدين الجنوبية في أواخر الخمسينات، بعد ان ظلت مدرسة بدين الشمالية تتحمل عبء توفير التعليم لأبناء المنطقة الممتدة نحو 100 كيلومتر شمالها وجنوبها على مدى أكثر من 15 سنة، وكان بناء المدرسة الجنوبية نتيجة لخطوة ماكرة تفتق عنها ذهن عمي محمد عثمان فقير علي، الشهير بموسوليني، الذي حدثتكم عنه في مقال سابق، قلت فيه انه أنشأ شيئا وسطا بين الخلوة التقليدية (مركز تحفيظ القرآن)، ورياض الأطفال الحديثة، وشيئا فشيئا صارت مدرسة “ميمد أُسمان تو”، وتعني محمد ولد عثمان، نواة تدفع بالتلاميذ المتفوقين أحيانا الى الفصل الثالث مباشرة في المرحلة النظامية، وذاع صيتها وسهل عليه من بعد ان يقنع المسؤولين بتحويلها الى مدرسة “صغرى” ثم الى مدرسة اولية كاملة، وسعدت كثيرا ببناء المدرسة الجنوبية على مقربة من بيتنا، فقد كان في الركن الشمالى الشرقي في قطعة الارض التي بنيت عليها، “فنتن بُتو” أي شجيرات نخل متشابكة، كان الجن يتخذونها مقرا لقيادتهم القطرية (كما اسلفت فان القيادة القومية للجن في بدين كانت في المقابر)، وكان الشياطين يعترضون طريقنا ونحن متوجهون من المدرسة (التي صار اسمها “الشمالية” لاحقا، ثم تحولت الى مدرسة ثانوية تحمل اسم ابن عمتي الشهيد محمد صالح عمر، الذي قتلته قوات حكومة جعفر نميري في الجزيرة أبا في عام 1970).
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com
يازول عليك الله تغير الموضوع لاتزعل مني 😎
يا ابو الجعافر لو ما عندك موضوع ما مشكله خليك ريح شويه وغيب ليك كم يوم كده وتعال ارجع بى حاجه مفيده . بالله القارئ يستفيد شنو من سيرتك دى ده اسمو افلااااااااس.