[ALIGN=CENTER]وفاجأنا القرن العشرون مجددا [/ALIGN]
ذلك ما كان من أمر خيط الطائرة النفاثة التي لم يكن أهل بلدتنا قد سمعوا بها، وحسبوا دخانها الذي ظل مرسوما في الفضاء، إيذانا بالقيامة ونفخ الصور، ثم التحقت بمدرسة البرقيق الوسطى، ولم يكن يحيط بها اي مبنى، بل كانت الأرض التي من حولها من الجهات الأربع خالية نمارس فيها اللعب والشيطنة، وذات يوم وبينما كنا في الحصة الثالثة سمعنا دويا يصم الآذان، ولأن تلك الحصة تعقب وجبة الفطور مباشرة، فقد حسبت الدوي ناجما عن تعاطي الفول، لأن الفول يسبب النعاس والهذيان، ولكن الكراسي والأدراج بدأت في الاهتزاز ولمحنا عبر النوافذ طائرا عملاقا يروح ويجيء فوق مبنى المدرسة، ومرة أخرى انطلقت صيحات: ويبيوووو ويبيو،.. يا للهول ويا للمصيبة! واندفعنا خارجين من غرف الدراسة عبر الأبواب والشبابيك، وانطلق بعضنا صوب السوق، وآخرون صوب “كرمة البلد” القريبة، ولكن الطائر الوحشي ظل يطاردنا فنتقهقر الى المدرسة.. كنا نحو 160 طالبا في زمن كان فيه الحد الأقصى للطلاب في كل غرفة 40 طالبا، وكنا جميعا نبكي ونصرخ ومعظمنا ينوح (باللغة النوبية): وو يو (يا يمة)،.. وو نور/أرتي (يا الله)، وحاول المدرسون تطويقنا وتهدئتنا ولكن لم يكن هناك مجال لـ”قم للمعلم وفه التبجيلا”، فقد انفلتت الأوضاع، فالمسألة حياة او موت ولا مجال للانضباط واحترام المعلم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.. وفجأت سكت هدير ذلك الطائر الخرافي فتحركنا ببطء في مختلف الاتجاهات لمعرفة الوجهة التي طار اليها.. ونجح المدرسون في تهدئتنا وطلبوا منا الانتظام في طابور طويل وساروا بنا الى الفسحة الشمالية المتاخمة للمدرسة، وكان الطائر جاثما هناك بلا حراك، فانفلتت الأوضاع مجددا وجرينا في كل الاتجاهات مبتعدين عن الطائر الوحشي، ثم لاحظنا ان بعض الاشخاص يقفون قريبا من الطائر دون ان يمسهم سوء، فاستجمعنا شجاعتنا واقتربنا منه قليلا.. وسمعنا ناظر المدرسة يقول كلاما عن الهليكوبتر وعن فريق من المساحين جاءوا ليحددوا موقع مستشفى البرقيق وأنهم حلقوا مرارا فوق المدرسة بحثا عن موقع مناسب تهبط فيه الهليكوبتر،.. انقلب خوفنا سرورا، بل وتجرأ بعضنا على لمس الهليكوبتر بأيديهم… وفي نوبة سخاء قال قائد الهليكوبتر انه مستعد لحمل تلميذين والطيران بهما بضع دقائق فوق المنطقة، فاندفعنا جميعا فارين صوب المدرسة.. وظلت سنة الهليكوبتر جزءا من التقويم في منطقتنا مثل مجاعة سنة ستة و”توسين قم”.. أي سنة الفيضان والمقصود بها عام 1946 الذي شهد فيضانا مدمرا.
يتردد كثيرا على قادة التمرد في ولاية دارفور في غرب السودان أن أهل الإقليم تعرضوا للتعريب القسري، وشاهدهم على ذلك أن المدرسين كانوا يعاقبون كل من يضبط متلبسا بالحديث بلغة محلية، عندئذ فقط أدركت اننا في منطقة النوبة كنا ضحايا الجنجويد (الاسم الذي يطلقه متمردو دارفور على المليشيات التي يقال إنها عربية) لسنوات طويلة دون وعي منا بذلك، فقد كنا نتعرض لضرب مبرح في المدرسة الوسطى إذا ضبطونا نتكلم باللغة النوبية، ولو كان المدرسون الجنجويد يعرفون مقدار الأذى الذي كنا نُلحِقه باللغة العربية، لتركونا نبرطم على كيفنا بل ولشجعونا على عدم التحدث بالعربية.. وعلى كل حال فقد أتى تعريبنا قسرا بنتائج “إيجابية” من وجهة نظر الجنجويد، فقد صار المامنا بالعربية أفضل، وساعدنا على ذلك وجود أقلية جنجويدية من قبيلة الشايقية بالمدرسة كان التعامل معها يرغمنا على التحدث بالعربية وفي المدرسة المتوسطة عانى الكثير من الطلاب من اللغات الأجنبية وهما العربية والانجليزية، وكانت الانجليزية أخف وطأة على قلوبنا وعقولنا لأنها مثل لغتنا النوبية لا تعرف التذكير والتأنيث، وليس فيها مثنى أو مفعول به، في ذات عام جاءنا استاذ “جعلي/عربي” يجمع بين الصرامة وروح الدعابة. ووجد تلميذ صعوبة في فهم الدرس، وبكل جلافة القروي رفع يده صائحا: يا فندي.. إنتي بتقولي شنو.. ممكن تشرحي سيادة (زيادة) شوية؟ هنا صاح المدرس: أنا أرجل منك ومن قبيلتك يا عجم يا بجم ،.. ثم ضحك.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com
يااستاذ انا ما عايز اكهرب الجو بس يا ريت الجنجويد يقدمو اعتذار على كل الجرائم التي ارتكبوها في حق السودان من ضمنها التعريب الاجباري