وتفادياً لهذا النوع المباغت من الانفجارات التي ربما تكون دموية الطابع ونأمل غير ذلك، ومحاولة منا لإبطال مفعول الاستهداف الخارجي الذي يتعين ألا يستهان به.. كان لزاماً علينا ان نبادر بطرح مشروع قومي نحسب أنه يمكن ان يبطئ من حركة الانفجارات ويقلل من الفرص امام الاستهداف الخارجي، وهذا المشروع يرتكز على تنمية البشر وإصلاح حالهم الصحي، ونقول في ظل الجمهورية الثانية لا نريد جاهلاً ولا عليلاً ولا عاطلاً ولا فقيراً ولا مهشماً. كاهداف قومية ــ التعليم بكل مستوياته والصحة بكل مستوياتها يعتبران من أهم ركائز الأمن القومي المتمثل في الانتاج وفي الدخل واستجلاب العملات الصعبة من سوق العمل بالخارج. إن العطالة والفقر والتهميش من أخطر المهددات المعاصرة للأمن القومي، ليست في السودان فحسب، وإنما في بلدان كثيرة من بلدان العالم الثالث التي تشاركنا نفس الأوضاع التي يعيشها سودان اليوم.
ونأمل أن تنجح حكومة الجمهورية الثانية الحالية العريضة بكل ما عليها من مآخذ في احراز قدر من التقدم في التعليم والصحة بالصورة التي يستهدفها المشروع القومي، وان هذا النجاح من المؤكد سيقود الى تحقيق الاهداف القومية العليا الممثلة في الانتاج القومي، وتوفير قدر كبير من العملات الأجنبية سواء من الاسواق الخارجية للعمل، أم من تخفيض درجات الاعتماد على الاستيراد من المنتجات الخارجية، بالاضافة تجفيف منابع التوتر وتهديد الأمن القومي، المتمثلة في تفشي البطالة واتساع دائرة الفقر وإسكات دعاوى التهميش والذين يصوبون اسلحة السنتهم الحادة في اتجاه حجم الصرف من الميزانية على الامن والدفاع، لأن المشروع الذي نحن بصدده يعطي الاولوية للصرف على التعليم والصحة، لأنهما من أهم ركائز الأمن القومي في العصر الحديث المفضي إلى نشر الأمن والاستقرار في البلاد وأثرهما على النماء. ونحن نرى عبر القناعات الاكيدة ضرورة تخفيض الصرف على الامن والدفاع، وضرورة تخفيض العدد والعتاد لهذه الاجهزة، والعمل الجاد على رفع كفاءتها القتالية والوقائية، وتوظيف هذه الخصومات المادية والبشرية في مشاريع التنمية المختلفة، وقد اتخذ الرئيس اوباما بالامس نفس الاجراءات بعد ان شعر بترهل القوات الامريكية وعدم كفاءتها القتالية، واشار بوضوح الى تخفيض العددية مع رفع الكفاءة. ونحسب أن الحالة الاقتصادية التي يمر بها الاقتصاد الامريكي هى مصدر الالهام لهذه القرارات، ونحن بالتأكيد بعد أن فقدنا أهم مورد من مواردنا للعملات الصعبة (البترول) بعد ضياع الجنوب، نكون في أمس الحاجة لتقليل الصرف على القوة غير المنتجة بالرغم من أهميتها، طالما هنالك بدائل. وقد بادرت بعض المؤسسات الامنية واعلنت من تلقاء نفسها تخفيض الصرف. وان الذي نحن بصدد تحقيقه لا يتم على ارض الواقع إلا في اطار قانوني (الدستور)، مع ضرورة ان يكون متوافقاً عليه في كل قطاعات الشعب، ونظام حكم نابع من الشعب مرضي عنه من الجميع، وقد عرف العالم في صدر الإسلام وأيام الرسول عليه أفضل السلام، نظام البيعة. فكانت بيعتا العقبة الاولى والثانية، اللتان تم فيهما الاعتراف بالتنوع وبحقوق وواجبات المواطنة، وعرف عصر الخلفاء الراشدين نظام البيعة والشورى ومجالها كآليات مساعدة للحكم، وعرفت اوروبا في عصورها المختلفة نظام العقد الجتماعي الذي انشغل به كثير من الفلاسفة والمفكرين أمثال جان جاك رسو وجون لوك وهوبز ومنسبكيو الذي اضافه الى آليات الحكم مسألة فصل السلطات. ولعلنا لا ننسى جهود ابن خلدون في هذا المضمار، وكل هذه الآراء والأفكار جاءت في زمان غير هذا الزمان، ولأسباب موضوعية تتعلق بظروف ومقتضيات غير التي نعيشها اليوم. ولكن مازالت هنالك صيحات اخذت تظهر في المسرح السياسي، وتنادي بشعارات تتحدث عن أن الاسلام هو الحل، وعن مجالس الشورى كآلية للحكم. ولكن بعض علماء العصر الحديث تحدثوا وافاضوا في الحديث بأن الاسلام ليس هو الحل ولكنه منهج حياة، وان الديمقراطية كآلية غربية هى الحل. وقالوا إن منهج الاسلام واضح في هذه المسألة، وذلك يؤكده قوله تعالى: «لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا أعدلوا فهو أقرب إلى التقوى». وقد دعم هذا النهج احد حكماء الامة الاسلامية وله اسهامات ونجاحات باهرة في بلاده، حيث اشار بوضوح إلى أن تعاليم الاسلام ومقاصده الحقيقية تقوم على الرحمة والتسامح والتعايش مع الآخرين مهما اختلفت دياناتهم وملتهم، وعلى أن يفهم البعض أن حرية الاعتقاد التي كفلها القرآن الكريم لا تجعل سبيلا أمام الذين يريدون أن يحملوا الناس على اتباع تصوراتهم وتفسيراتهم للإسلام، بحسبان ان هذه التصورات هي الاسلام الحقيقي، كما يتعين عليهم ان يفهموا ان العامل المهم في تعريف هيئة الدولة الحديثة وفق معايير الاسلام، هي ضرورة توفر شرط العدالة والمساواة وهما مقاصد المجتمع المسلم.
إن العدالة والمساواة في هذا العصر لن يتحققا إلا في ظل نظام حكم ديمقراطي راشد نابع من الشعب ويقيم دولة القانون، ويكفل الحريات ويحترم حقوق الإنسان الحياتية المعيشية والربانية. اذن الحل الحقيقي يكمن في ايجاد آلية تسمح بتوسيع دائرة الشورى وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية ومراقبة من الشعب، وان المتاح اليوم من آليات للحكم هي الديمقراطية، وهي الآلية القادرة على الوفاء بمتطلبات الشعوب عبر الحكم الراشد، وإن الديمقراطية ظلت بالرغم ما قيل ويقال عنها وعن بعض عيوبها عند الممارسة، خاصة في دول العالم الثالث لاعتبارات محلية، وعلى قمة هذه الاعتبارات الجهل والامية السياسية، ولكن بالرغم من العيوب التي تصيب الديمقراطية ظلت هي افضل ما توصلت البشرية المعاصرة من آلية لممارسة الحكم وادارة الدولة، خاصة في المجتمعات التي تعاني من ادعاءات الأقليات العرقية والدينية بالتهميش وعدم المشاركة وغياب العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل لموارد الدولة، وقد تأكد من تجارب العالم المتقدم أن الديمقراطية التي يأتي بها الشعب وعايش في ظلها الشعب، غالبا ما تأتي عبر صناديق الاقتراع بأفضل أبناء هذه المجتمعات الى دفة الحكم، وهم وحدهم الذين لديهم القدرة والكفاءة والاخلاص لقيادة هذه المجتمعات للتقدم والازدهار.
وعن الديمقراطية قال افلاطون: إن الديمقراطية باعتبارها نظاماً للحكم عند الممارسة غير الجادة والمسؤولة يلحق بها قدر من الفساد. ولهذا نجده يوصي باصلاح هذا الفساد عبر دورة برلمانية جديدة مختلفة تماما عن التجربة السابقة ان لحق بها الفساد.
واكد أن الفساد في عالم السياسة امر حتمي، وترجع حتمية هذا الفساد الى تراكم اهواء البشر وانحيازهم الى مصالحهم الخاصة الذاتية. ولكنه عاد واشار بكل وضوح إلى أن البشرية التي تفسد هي نفسها القادرة على أن تخرج من بين قادتها رجال افذاذ، وهم وحدهم الاقدر على اصلاح هذا الفساد، ولكنه اكد في النهاية أن الديمقراطية غالبا ما تظهر افضل ما في البشر من خصائص، وان هذه الخصائص دائماً ما تكون مكتسبة عبر الممارسة الديمقراطية الجادة والمسؤولة.
والناظر اليوم الى التحولات التي افرزتها ثورات الشعوب العربية في بعض دول العالم العربي التي اكدت حقائق لا يخطئ فهمها واستيعابها، جاهل او مختل العقل وهي: ان الملك لله وان حاكمته الحكم للشعب، وانتهاء عهد استبداد الحكام الطغاة بشعوبهم، وانتهاء دور الاسرة والعائلة في الحكم، وان الديمقراطية والحكم عبر صناديق الاقتراع هي الاصلح وان التيار الاسلامي المعتدل هو التيار الغالب، وان تجربة الاسلام السياسي في الحكم تواجه تحديات جسام. واحسب ان الجيل الجديد من الاسلاميين لديه من الوعي بحقائق المرحلة وبواقع اوطانهم وطموحات شعوبهم، ما يمكنهم من التغلب على المصاعب التي ستواجههم، خاصة أن امامهم تجارب دول سبقتهم في هذا المضمار، منها تجربة السودان، وتجربة ايران وباكستان، وتجربة غزة وتجربة تركيا، وتجربة افغانستان، والذي يهمنا من كل هذه التجارب تجربة السودان، ولا تجد اية خشية من تسليط الضوء عليها، لأن ثورات الشعوب العربية وظهور التيارات الاسلامية ووصولها الى الحكم عبر الديمقراطية وصناديق الاقتراع وضع التجربة السودانية في محك، حقيقي وبين خيارين، اما الاصلاح الديمقراطي واما التغير بأية صورة من صور التغيير الشعبي، لأن التجربة السودانية سارت في الطريق الخاطئ ولم يهتد قادتها ومفكروها بنهج التفكير الاستراتيجي منذ البداية، بل تمترسوا في الجاه والسلطة، وحكموا السودان شمولياً، فأضاعوا الجنوب وأضاعوا التجربة الاسلامية، وفرعنوا الجهوية والقبلية، واستعدوا العالم واستعدوا الاجنبي، ولم يرحموا الشعب، جاءوا الى السلطة عبر انقلاب عسكري على نظام ديمقراطي، ولم يكن الصادق المهدي طاغياً ولا محمد عثمان الميرغني كان فرعوناً، وباسم الاسلام سلكوا الطريق المودع، واذا لم يفعلوا ذلك لكان السودان اليوم من الدول التي يشار اليها في حكم الاسلام السياسي، وكنا اليوم في قيادة العالم العربي بجدارة، لكن مع الاسف والاسف الشديد، اصبح اليوم كتاب تجربة الاسلام السياسي في حكم السودان مكشوفاً ومتاحاً، لكي يقرأه المسلمون الشباب الذين سيعتلون الحكم في اغلب البلاد العربية، والذي نخشاه حقيقة ونتوقعه أن يدير لنا أغلب هؤلاء الحكام الجدد في هذه البلدان العربية ظهورهم. إن الفضاء السياسي مليء بالغواصات العربية وغير العربية التي تعمل بهمة في مجال توسيع المسافات بين السودان ونظام هذه الدول الإسلامية الديمقراطية، ولم يبق امامنا غير الاصلاح الديمقراطي لكي نلحق بالركب العربي المعاصر، ونعيد التجربة إلى مسارها الصحيح، وعبر الديمقراطية الحقيقية نستطيع ان نحقق المشروع القومي الذي نحن بصدده، وان نعيد للسودان سيرته العطرة بين الامم والشعوب، ونسعى جميعا جادين اذا خلصت النوايا إلى ارجاع جنوب البلاد الحبيب الى ارض الاجداد العظام.
وفي النهاية اختتم هذا الطرح واقول إنك لا تهدي من احببت ولكن الله يهدي من يشاء.
والله الموفق. [/SIZE] صحيفة الصحافة
عميد أمن: حسن بيومي
