جعفر عباس

مارس شهر “الكوارس”


[ALIGN=CENTER]مارس شهر “الكوارس” [/ALIGN] عشنا في جامعة الخرطوم حياة جامعية بالطول والعرض، وكنت سعيدا بحياتي في الجامعة بدرجة أنني مثل معظم زملائي لم أكن أفرح بالإجازات، فقد كانت فترة حافلة بالنشاط المثمر الممتع في كل المجالات، رغم ان المناخ الأكاديمي كان ضاغطا ومرعبا، وفي كل دفعة كان من الوارد جدا ألا يتخرج أحد بتقدير أعلى من جيد، فلم يكن هناك سخاء في توزيع الدرجات كما يحدث في جامعات العباقرة حاليا، بالعكس كان هناك تشدد صارم في منح الدرجات، ولو كنت راسبا بدرجة واحدة في مادة أو ورقة يجتمع مجلس الكلية للنظر في أدائك العام ليقرر ما إذا كان ممكنا التصدق عليك بدرجة، وكان من المعتاد جدا أن تبدأ دفعة بمائتي طالب ويبقى منهم في السنة النهائية 112 طالبا، وكانت كلية الطب في جامعة الخرطوم تحتل المرتبة الـ34 عالميا كتفا بكتف مع جامعات العالم العريقة، وكان خريجو مختلف كليات جامعة الخرطوم يقبلون في جامعتي أوكسفورد وكيمبردج البريطانيتين بلا نقاش للدراسات العليا، وكانت جامعتا ليدز وريدنغ محطة في مسار كل سوداني يرغب في الماجستير او الدكتوراه في اللغة الإنجليزية، وكانوا يعاملون كخواجات بلا توفل ولا تِفِل، بينما كانت جامعة لندن تفتح أذرعها لكل خريج من جامعة الخرطوم في مختلف التخصصات، في السبعينيات كان ثلاثة سودانيين يديرون ثلاثة مستشفيات في كبريات المدن البريطانية وكان في لندن الكبرى وحدها نحو سبعمائة طبيب سوداني بين دارس ومتفرغ.
وبسبب شراسة الامتحانات في الجامعة كان مألوفا إصابة بعض الطلاب بالرهاب/ الفوبيا او الجنون التام و(خاصة في كلية الطب) بعد سنة او سنتين “بالكتير” من الالتحاق بها، وكانت كرة السلة هي اللعبة الأكثر شعبية في الجامعة وكنا نحيط بملعب السلة خلال المباريات الكبيرة ونشجع فريقنا بهتاف عجيب: يحكى أن .. أن إيه؟ أن جامعة .. جامعة إيه .. جامعة شيزو .. شيزو إيه؟ شيزوفرانيا.. كان ذلك تلميحا لإصابة طلاب الجامعة بمرض الفصام النفسي خلال الامتحانات.. (وبالمناسبة فالتسمية الانجليزية الصحيحة لهذا المرض ليست شيزوفرانيا بل سكتزوفرانيا schizophrenia، وإذا رأيت ان تجعل في بداية الكلمة حرف الألف بالكسرة فأنت حر، وأنا أتفهم وأقدر ظروفك فلأنه ليس في اللسان العربي كلمة تبدأ بالسكون فإننا نقول اسكتلندا ونقول ان المدرسة هي اسكول، مع ان الكلمتين تبدآن بحرف السين/إس، فنأتي نحن بألف مكسورة على عادة لساننا)
كان ذلك في زمن تسير فيه العملية التعليمية بانضباط شديد، ولم يكن هناك طالب في أي مرحلة تعليمية يسأل عن موعد بدء الإجازات أو انتهائها، فعند بداية ونهاية كل عام دراسي كان تقسيم الفترات الدراسية وما يتخللها من إجازات ثابتا.. وكان كل الطلاب في جميع المراحل يجلسون للامتحانات في شهر مارس ويستأنفون الدراسة في يوليو(ما عدا منطقة البحر الأحمر لاختلاف أحوال المناخ عن بقية السودان) وفي منتصف ليل آخر يوم في فبراير من كل عام كان جميع طلاب جامعة الخرطوم يسيرون مواكب تطلق العويل والنواح في مرح صاخب وتجوب الشوارع المحيطة بالجامعة تشاؤما بقدوم “مارس شهر الكوارس/ الكوارث” التي هي الامتحانات.. كانوا يطلقون صرخات تحنن قلب الكافر، كانت الصرخات ذات طابع “نسائي”، أي أنهم كانوا يقلدون نواح النساء عند وقوع البلايا والرزايا، ويتضامن معهم أصحاب السيارات: شدة وتزول يا شباب.. شدوا حيلكم، الله معكم.. ولكن معظم المارة كانوا يفاجأون بتلك التظاهرة الغريبة التي يمتزج فيها العويل بالضحك والقهقهات، وكان ذلك بالنسبة إلى بعض أهل الأرياف دليلا قاطعا على ان الجامعة تفسد الأخلاق وتحول الرجال الى “حريم”.. من منطلق ان رجلا يتلقى التعليم في نفس الحجرة مع البنات “أصلا مش راجل”، وبنت تدرس مع الأولاد “منه العوض وعليه العوض”.

أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com


تعليق واحد

  1. حقيقة الموضوع جميل وبنورنا بفترة لم نكن نعايشها ويشعرنا بالفخر من تاريخ جامعة الخرطوم.
    ولكن السؤال ماذا حل بالكوادر التي تخرجت من الجامعة وما اسهامها في تطور السودان ؟؟ هل كان هنالك عيبا ما في مكان ما ؟؟