جعفر عباس
سنار الثانوية ومتعة التدريس و”الخفافيش”
كانت مدرسة سنار الثانوية حسنة السمعة، فقد كان معظم طلابها “يجتاحون” نتائج امتحانات الشهادة الثانوية ويدخلون الجامعة بـ “المزيكة”، وكان بالمدرسة سكن داخلي للطلاب ومنازل مخصصة للمعلمين والموظفين الإداريين والماليين، وفور وصولي الى المدرسة وجدت أنهم كلفوني بأن أكون ضابطا لـ “داخلية جَماع”، مما كان يعني ان أقيم في غرفة خاصة بتلك الداخلية وأشرف على الانضباط والنشاط الثقافي والرياضي للمقيمين فيها، وكان ذلك يعني أن تأتيني الوجبات المجانية في غرفتي، ولكنني لا أذكر قط أنني أكلت من الطعام الحكومي المجاني، فقد كانت المدينة “رَخِيّة” أي تعيش حالة من الرخاء والنعيم.. كنا نشتري عشر دجاجات بجنيه واحد، ولو رغبنا في سمك ذهبنا الى موقع الخزان فنشتري نحو عشرين سمكة بخمسين قرشا ولو “طولت بالك” وانتظرت حلول المساء كنت تحصل على السمك مجانا لأن الصيادين لم يكونوا يملكون ثلاجات وبالتالي كانت أفضل وسيلة للتخلص من السمك الفائض عن حاجة السوق منحه لمن يرغب فيه أو إلقاءه في النيل الأزرق ليصبح طعاما لأسماك أخرى
كان معظم طلاب المدرسة من الأرياف القريبة من مدينة سنار وكانوا على درجة عالية من الأدب والانضباط الأخلاقي والأكاديمي، وكنت سعيدا جدا بتدريس الإنجليزية فيها لأن معظم الطلاب كانوا يجيدونها وأذكر أنني درست دفعة مقرر الأدب الإنجليزي (مسرحيتان ورواية) للشهادة الثانوية وهم في السنة قبل الأخيرة من موعد الجلوس للامتحانات، وكان مصدر الضيق الشديد لي خلال السنة التي قضيتها في سنار، الوطاويط/ الخفافيش، فقد كانت الآلاف منها تعيش في تجاويف سقوف المدرسة والسكن الطلابي، كان أحد الطلاب قد أهداني مصباحا كهربائيا جميلا مصنوعا من قرني ثور وذات ليلة دخلت الغرفة وأضأت المصباح فانطلق من تجويف القرن وطواط كالصاروخ، وصرخت، وقمت، ووقعت، والوطوط يروح ويجيء بعد أن أربكه الضوء وسمع الطلاب صرخاتي وهبوا لنجدتي وطردوا الوطواط وأشبعوني تريقة، ولجأت الى منزل زميلي (وأستاذي سابقا في مدرسة وادي سيدنا الثانوية) عثمان عبد المجيد وقضيت ليلتي عنده،.. وصرت كلما أردت دخول غرفتي الصغيرة طلبت من الطلاب استكشاف الوضع والتأكد من خلوها من الوطاويط.. وفي ساعة متأخرة من ذات ليلة مهببة، سمعت صراخا عاليا من أحد عنابر الداخلية و”فتحت الأنوار” وكانت مفاتيح الكهرباء في غرفتي للتحكم في مواعيد إطفائها في الموعد المحدد للنوم، ودخلت العنبر الذي صدر منه الصراخ ورأيت مشهدا ما زال مجرد تذكره يجعل جسمي يتكهرب خوفا.. انهار جزء من السقف الداخلي وسقطت على رؤوس الطلاب عشرات الوطاويط البيبي بينما ظلت الوطاويط الكبيرة تطير على غير هدى.. وبدون تردد تركتهم على ما هم فيه من حال وتوجهت مجددا الى منزل عثمان عبد المجيد وكان ذلك بعد منتصف الليل ولما رآني قال: بيتنا كمان مليان وطاويط.. ثم ضحك واستضافني لتلك الليلة وقررت بعدها أن أسكن على نفقتي الخاصة بعيدا عن المدرسة.
أخبار الخليج – زاوية غائمة
jafabbas19@gmail.com
رائع ومااجمل واحلا الذكريات وسمح القول من خشم سيدو .