جعفر عباس

خذوا العبرة والموعظة (2)


خذوا العبرة والموعظة (2)
كلفتني صحيفة الاتحاد الإماراتية بمحاورة وزير الخارجية الأسبق ادموند ماسكي، فقررت استعراض عضلاتي الثقافية واللغوية وألقيت على الرجل سؤالا أقرب إلى المحاضرة، بمعنى أنني ظللت أرغي وأزبد لطرح السؤال بما يعطي الانطباع أنني شخص فهمان وخطير، ثم نظرت إليه في انتظار الإجابة، ولكن الرجل لم ينطق بحرف، وحسبت ان السؤال «صعب»، فأعدت طرحه بصيغة أخرى، ولم يستغرق مني ذلك أكثر من خمس دقائق، ولكن مفيش فايدة.. فقررت طرحه بصيغة ثالثة، ولكن صوتا صدر منه أكد لي انه لا جدوى من محاورته.. فقد اكتشفت أن الوزير كان بلا حراك وأنا أثرثر وأعربد مستعرضا قدراتي الصحفية واللغوية، وسرى الرعب في أوصالي، ماذا لو راح فيها الرجل وكان وقتها قد بلغ من الكبر عتيا؟ سأكون هدفا للمخابرات الأمريكية وجيمس بوند، وكان معي مصور باكستاني عمل على طمأنتي: انت ما في خوف.. هذا نفر ما في موت .. هو بس في نوم منشان هو واجد شيبة.. أنا في يسوي شوية هركات بفلاش مال كاميرا بعدين هو يقوم إن شاء الله!! ثم اقترب منه وأمطره بعدة فلاشات كادت تشوي وجهه المكرمش أصلا، فانتفض الرجل معتذرا لغفوته، ولولا بقية من حياء لـ«بست» أي قبّلت رأسه لأن سؤالي لم يقتله، وواصلنا الأسئلة والأجوبة وخرجت منه بشريطين مسجلين قمت بتفريغهما ونشر محتوياتهما كمانشيت للصحيفتين وكان اسمي مكتوبا على رأس الحوار المنشور الذي تناقلته وكالات الأنباء، فقلت: خلاص يا أبوالجعافر، لازم تعتزل وأنت في قمة مجدك بعد أن صار اسمك على لسان كل وكالة أنباء.. ولكن فرحتي لم تكتمل لأن السفارة الأمريكية بعثت بتكذيب الكلام الذي نسبته إلى الوزير الأمريكي، واستدعاني رئيس التحرير وهو يحسب انه وجد ذريعة للتخلص مني، وعاتبني على فبركة الحوار، ولكنني أبرزت له الشريط الذي يؤكد أن الوزير قال كل كلمة نسبتها إليه، وتم استدعاء الملحق الإعلامي في السفارة الأمريكية في أبو ظبي وجلست معه ليستمع إلى فحوى الشريط، فخرج من مبنى الصحيفة وقفاه يقمر عيش من فرط الكسوف، وبكل هبالة شرحت لرئيس التحرير كيف أن الوزير نام أثناء طرحي للأسئلة!! هنا صاح الرجل: بالتأكيد أنت شيوعي أو عميل للسوفييت، وتم تدريبك على تنويم وزير الخارجية الأمريكية مغناطيسيا حتى تحصل منه على معلومات «سرية»، ولكن فحوى شريط التسجيل نفى عني تهمة الشيوعية والعمالة للسوفييت، بل نشرت في اليوم التالي كلمات أتحدى فيها السفارة الأمريكية أن تثبت أنني فبركت الحوار، ولحسن حظي لم تكن هناك جوانتنامو في ذلك الزمان.
والدرس المستفاد من تلك التجربة هو أن على الصحفي الناشئ عدم اللجوء إلى الأسلوب الجعفري في الحوار حتى مع صغار المطربين أو حتى الراقصات.. وقد تم تكليفي لاحقا بمحاورة رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر، ونجحت بكفاءة، وأحدث الحوار ضجة، وكان سر نجاح الحوار هو أنها، بغطرستها المعهودة، رفضت الجلوس معي وجها لوجه (ربما خوفا على نفسها من الفتنة)، وتلقت أسئلتي مكتوبة، وزودتني بالأجوبة مكتوبة، بعد أن شطبت نصف أسئلتي، ولم تكن إدارة الصحيفة تعلم بذلك، فمنحني رئيس التحرير حافزا تشجيعيا وقال خلال حفل تكريمي إن جعفر نجح كصحفي، لأنه فقد قدراته على التنويم المغناطيسي، وأن بقاء ثاتشر مستيقظة طوال حواري معها دليل على أنني لا أخلو من جاذبية، وإلى يومنا هذا لا أعرف هل كان ذلك مدحا أم ذما!
والشاهد: إذا أردت أن تنجح كصحفي،.. ادرس المسيرة الجعفرية.. ثم سر في الاتجاه المعاكس.

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]

تعليق واحد