الأزهري سلّم الحزب الاتحادي للختمية في طبق من ذهب
1- أنه أولاً الحزب الذي حقق الأغلبية البرلمانية التي أهلته لأن ينفرد بالسلطة في أول حكم وطني عرفه السودان وهى حالة لم تتحقق لأي حزب من بعده حتى اليوم، ولكنه رغماً عن إنجازاته المحدودة كان دون الهم الوطني في أهم مرحلة حساسة في تاريخه لبناء وطن لم يكن في حكم الوجود يقتضي منه وضع العلاج لمشكلاته التاريخية ولملمة أطرافه.
2- إن دخول طائفة الختمية ضمن منظومته لحاجته لها في بداياته وأنها واحدة من مكوناته الضعيفة بين المجموعة التي توحدت في الحزب الوطني الاتحادي تحت المبادرة المصرية، فإنه لم يدرك مخاطرها المستقبلية لما لها من تناقض مع الديمقراطية لولاء قادتها لزعيم الطائفة، لهذا أصبحت السبب في نهايته الأمر الذي ألحق ضرراً كبيرا بالوطن.
3- تمركزت قوة الحزب في أن قاعدته تشكلت من مناطق الوعي من شمال السودان الأوسع تعليماً واحتكاكا بإدارة الدولة، لهذا جاء تكوين أول حكومة وطنية من قيادات مميزة متجردة من المتعلمين والمثقفين إلا أنها على الصعيد العملي كانت دون طموح الوطن وعجزت عن إدراك احتياجاته السياسية.
4- الكوادر الإدارية التي ارتبطت بالدولة في عهد الاستعمار كانت غالبيتها العظمى من كوادر الحزب الوطني الاتحادي، ومع ذلك لعبت دوراً سالباً لما آلت إليها السلطة السياسية، الأمر الذي أضعف من إرث الخدمة المدنية التي أسسها الإنجليز وفق ضوابط شكلت صمام الأمان لوطن يحتاج للانضباط إلى أن جاء عهد الإنقاذ وقضى عليها تماما.
أما حزب الأمة والذي يقع في الدرجة الثانية من المسئولية، فلقد أنشأ ملكية خاصة لطائفة الأنصار (آل المهدي) والتي تشكلت قاعدته في مناطق أقل وعياً من مراكز الحزب الوطني الاتحادي، والتي عرفت وقتها لقلة انتشار التعليم فيها بمناطق التخلف مما جعلها قواعد رهن الإشارة وبلا إرادة، لهذا ظلت الدوائر الانتخابية في وسط وشمال السودان مركز الوعي حكراً على الحزب الوطني الاتحادي بينما تمتع حزب الأمة باحتكارية المناطق الأقل وعياً خاصة وأن التعليم في المرحلة الثانوية وكلية غردون والجامعة تمركز وبصورة مطلقة في الخرطوم وود مدني والأبيض(وادي سيدنا وخور طقت وحنتوب بجانب الأهلية الثانوية التي أسستها القيادات الوطنية كأول قطاع ثانوي أهلي قبل أن تنضم إليها مدرسة المؤتمر الثانوية أم درمان تيمناً بمؤتمر الخريجين ثم جامعة الخرطوم حكراً يومها على خريجي هذه المدارس، لهذا كان من المنطقي تميز الحزب الوطني الاتحادي على حزب الأمة لنفوذه المطلق على هذه المناطق، ولهذا لا يصح أن نضع حزب الأمة على نفس المستوى من المسئولية عن الفشل في الحكم الوطني بحكم نشأته وتركيبته ولأنه لم يحدث أن دانت له السلطة وحده وليس معنى هذا أنه معفي من مسئولية الفشل فهو الشريك الطائفي الثاني للختمية لما آلت إليه البلد بعد ذلك، بل ستظل الطائفتان وراء ما حل وسيحل بالسودان بعد تراجع الحزب الوطني الاتحادي لهمينتهما على أهم وأكبر حزبين في السودان، حيث حالا دون بناء دولة مؤسسية ديمقراطية يتعايش فيها كل السودانيين من مختلف هوياتهم وعنصرياتهم وأديانهم الأمر الذي فتح الأبواب لانتشار الأحزاب العقائدية بمختلف مسمياتها وهى أحزاب شمولية في فكرها وتناقضاتها كما أن الطائفية السبب في إقحام العسكر في السلطة لهذا تبقى أكبر مهدد للديمقراطية وأكبر مهدد لوحدة السودان لأن فكرهما يقوم على هيمنة الأسرة على السلطة.
ولا أظن أن الحديث عن الحزب الوطني الاتحادي يحتاج مني التحدث عن نشأته وعن مواقفه حتى إعلان الاستقلال، حيث أنني تناولت هذا في الحلقات السابقة لهذا فإن مصدر اهتمامي بالحزب يتمثل في ما بعد الاستقلال بعد أن دانت له السلطة بأغلبيته البرلمانية. والتي أتاحت له الفرصة أن يصنع حزباً لا يقل عن حزب المؤتمر في الهند وأن يؤسس لبلد يضاهي أكبر دول العالم لما يتمتع به من ثروات وإمكانات لو أنه وجد من يحسن صياغته إلا أن بناء الحزب نفسه كان ينقصه الفهم المؤسسي الديمقراطي و لم يكن هذا من اهتمامات قادة الحزب حتى يقدم نموذجاً يحتذى به لتأسيس دولة ديمقراطية قادرة على التفاعل مع الهم الوطني وإعادة صياغته، وهذا أهم وأخطر إخفاقاته التي دفع ثمنها السودان ولا يزال يدفعها وسيظل يدفعها ما لم تحدث معجزة تقدم حلا لازمة البلد التي أصبحت مستعصية إذا لم تتجرد كل الأطراف المعنية من نظرتها الضيقة الذاتية والمصلحية.
لقد كانت هذه السقطة هي أكبر أخطاء هذا الرعيل الذي تولى أمر الحزب في أهم مرحلة ولا يمكن لأي شخص أن يكابر أو يقلل في نقاء تلك النخبة التي تولت قيادة الحزب في تلك المرحلة والتي حققت انجازات يحفظها لهم التاريخ إذ جنبوا السودان شر الفتنة التي كانت ستكون كارثية على الوطن وتخطوا مرحلة التسليم والتسلم بجلاء القوات المستعمرة وتأهيل الكادر الوطني لسودنة الخدمة المدنية، كما قدموا نموذجا قدوة في التجرد، حيث لم يخلف أي منهم برجاً أو مصنعاً، ولكن تبقى الحقيقة في أنهم أخفقوا عندما كتبوا نهاية حزب كان هو أمل السودان لو أنهم أحسنوا إعادة بنائه وجنبوه الارتباط بطائفة الختمية ليكون مؤسسة ديمقراطية رائدة لم تكن لتواجه أي معضلة في انحياز الشعب السوداني لها كما حدث لحزب المؤتمر في الهند إلا أن غياب الثقافة الديمقراطية انحرف بتصرفاتهم التي أصبحت خصماً على الديمقراطية عامة والحزب خاصة، حتى كتبوا له هذه النهاية التي لا ينكرها إلا مكابر.
ثلاثة أخطاء تاريخية بالغة الخطورة تتحمل مسئوليتها هذه النخبة دفع الوطن ثمنها غاليا :
1- في الوقت الذي كان على هذه النخبة أن تلتفت لمكونات السودان المتعددة ومتنافرة لأسباب جهوية وعنصرية ودينية فإنهم تجاهلوا هذا الواقع وانساقوا خلف الصراعات الهامشية حول السلطة، بل قدموا حول هذا الأمر نموذجاً سيئاً وهم رغم حيازتهم على السلطة والأغلبية فإن البرلمان لم يفِ بوعده و يتفذ قراره بمنح الجنوب الحكم الفدرالي وكان هذا أعلى سقف لمطالبه يومها، الأمر الذي كان سيجنب السودان انفصال جنوبه وتهديد وحدته في غير الجنوب.
2- فشل الحزب في أن يقدم نموذجاً للممارسة الديمقراطية، بل قدم نموذجاً سلبيا لها، حيث لم يكن ديمقراطياً في ممارساته ولم يؤسس لأي حزب مؤسسي ديمقراطي يؤكد هذا أنه منذ تشأته لم تكن له عضوية منظمة ذات حقوق ديمقراطية واضحة ولم يشهد تاريخه منذ نشأته مؤتمراً عاماً ولم يعرف تاريخه رئيسا انتخبه مؤتمر عام للحزب الأمر الذي مهد للانقسامات التي أصبحت ملازمة له حتى اليوم، حيث أصبح كماً هائلاً من الفصائل المتنافرة.
3- وفى خطوة هي الأخطر في تاريخ الحزب ودفع ثمنها غالياً كما دفع ثمنها السودان ولا زال وسيظل يسدد فاتورتها أن الأزهري ومجموعته من النخبة سلمت الحزب في طبق من ذهب لزعيم طائفة الختمية السيد محمد عثمان الميرغني عندما عاد للاندماج معه في حزب واحد ليحقق رغبة الميرغني وطموحاته في أن يحول اكبر واهم حزب تعول عليه البلاد لضيعة خاصة تمتلكها الأسرة وتتوارثها، مما فرض على الحزب واقعاً غريباً يصعب الفكاك منه فكيف لحزب لم يعد اليوم يملك أن يكون بدون الميرغني، وفى ذات الوقت لا يملك أن يكون بوجوده (أليس هذا حكم بالإعدام على ميت)
وحتى لا نحمل المسئولية كلها للميرغني فالحقيقة التي لا ينكرها إلا مكابر فان الميرغني ليس هو وحده الذي صادر الديمقراطية عن الحزب، فالحزب منذ نشأته كان في صراع دائم من أجل الديمقراطية التي لم يعرفها في أدبياته، فالحزب لم يكن مؤسسة ديمقراطية سواء تحت زعامة الأزهري أو الشريف حسين الهندي إلا أنها في عهد الميرغني أصبحت حكراً له وأسرته كطائفة بينما كانت في عهدي الأزهري والشريف لا تخلو من قناعة القيادات الاتحادية بأحقيتهم بالزعامة عن جدارة، ولكن هذا لا ينفي أن الحزب لم يعرف الديمقراطية تحت زعاماتهم.
فالأزهري وإن أصبح زعيما برضاء القادة الاتحاديين والقاعدة غير المنظمة حزبيا إلا أن الكثير من التصرفات بدرت عنه افتقد فيها الالتزام بالديمقراطية واحترام الرأي الآخر، حيث كان بيده أن يؤسس لحزب ديمقراطي تحكمه قاعدته عبر المؤتمر العام ولكنه لم يفعل كما أن مواقفه لم تخلو من ممارسة غير ديمقراطية، حيث كان ينفرد باتخاذ القرارات ولم يكن يقبل مخالفته في الرأي وقد تمثلت مواقفه هذه في كثير من الشواهد التي عرفها الحزب عبر مسيرته بحثاً عن الديمقراطية أذكر منها على سبيل المثال:
1- فلقد عرف الأزهري بإعلانه التقليدي في الصحف والذي يعزل فيه من الحزب من لا يطيع له أمراً أو إبداء رأي مخالف له (إلى من يهمه الأمر سلام) خمسة كلمات يصدرها تعنى نهاية قيادي بالحزب، ولعل أهم من وجه لهم هذا القرار كان الشريف زين العابدين الهندي لما ترشح في دائرة برى الانتخابية بناء على رغبة لجان الحزب بالدائرة في مواجهة السيد إبراهيم جبريل المرشح الذي إرادة الأزهري مما أفقد الحزب الدائرة للحزب الشيوعي بالرغم من أن إرادة القاعدة بالدائرة كانت أقوى من إرادة الأزهري، حيث حقق الشريف أصواتاً بفارق كبير من إبراهيم جبريل والذي كان مؤهلاً للفوز لو أن الأصوات الاتحادية القليلة التي نالها إبراهيم حبريل مرشح الأزهري ذهبت إليه ولقد تكررت ظاهرة تعدد المرشحين لنفس السبب في أكثر من دائرة انتخابية.
2- مواقف كثيرة تعرض لها الحزب تباينت فيها الرؤى مع الأزهري إلا أنه كان يصدر أوامره لنواب الحزب للالتزام بما يراه هو دون مشورة الهيئة البرلمانية لنواب الحزب مما دفع ب17 نائباً من نواب الحزب لرفع مذكرة له مطالبين بأن ترجع زعامة الحزب للهيئة التي تضم نواب الحزب المفوضون من قواعدهم وإشراكهم لتحديد مواقفهم وكانت هذه المذكرة هي الأهم في مسيرة الحزب، وقد فاقت في شهرتها وأهميتها يومها مذكرة العشرة التي عرفت في عهد الإنقاذ ويومها تردد الاتهام سرا أن الشريف حسين كان خلف مذكرة النواب ال17والتى كان على رأسها محمد الحسن عبد الله يسن. وتوالت مواقف النواب في ذات الاتجاه في أكثر من مناسبة وكان على رأسها الزين حامد وعبد الوهاب خوجلي وآخرون، وكلها كانت محل خلاف مع الأزهري لرفضهم انفراده بالقرار.
أما الأخطر في مواقف الأزهري والتي شكلت خروجاً سافراً عن الديمقراطية والتي لم تقف على الشأن الداخلي للحزب فلقد تمثلت في:
1- مشاركة الأزهري وزعيم الحزب الذي يفترض أن يقدم نموذجاً جيداً للممارسة الديمقراطية واحترام الأحزاب التي تخالفه الرأي فان الأزهري شارك قائدا لأكبر عدوان على الديمقراطية عرفه السودان في تاريحه في واحدة من اخطر الأحداث التي أدخلت السودان في نفق مظلم عندما شارك في التآمر الذي استهدف حل الحزب الشيوعي ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل طرد نوابه المنتخبين من عضوية البرلمان ليصبح شريكا أساسيا باسم الحزب في هذه المؤامرة ضد الديمقراطية وقد بلغ به الأمر وهو يقف على رأس الدولة أن يتهدد البرلمان إذا لم يطرد نواب الحزب أن يخرج بنفسه ليقود الشارع في تظاهرات لإرغام البرلمان على طرد النواب وهو موقف حسب عليه وعلى الحزب. ولا أظن أن الزمن يمكن أن يمحوا هذا الموقف من ذاكرة التاريخ
2- أما الثانية والتي غيرت موازين العمل الوطني كله فبالرغم من أن القاعدة الاتحادية وقفت بجانب الحزب تحت زعامة الأزهري لما انشقت طائفة الختمية عنه وأسست حزباً خاصاً بها حزب الشعب الديمقراطي، ومع ذلك انحازت قاعدة الحزب للأزهري وجماعته وحققت له أكثرية النواب مقارنة بالحزب المنشق، الأمر الذي أكد رفض القاعدة الاتحادية لهيمنة الطائفة على الحزب فإذا بالأزهري يعود للاندماج مع الطائفية التي شارفت نهايتها تحت مسمى الحزب الاتحادي الديمقراطي رافضاً الاستماع للأصوات الاتحادية الرافضة لهذه الردة بعد أن حسم الحزب أمر الطائفة خاصة وإن قرار بهذه الأهمية والخطورة ويتهدد مستقبل الديمقراطية في الحزب لا يصدر إلا عن مؤتمر عام للحزب ولا يصح أن تنظر له زعامة الحزب يومها وتقرر فيه لموازنات الصراع من اجل السلطة أو رغبة في رئاسة الدولة وبهذا القرار كما أشرت في مقدمة هذه الحلقة فإن الأزهري سلم السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الطائفة الحزب في طبق من ذهب حيث لم تمضِ إلا سنوات قليلة إلا وأصبح الحزب ملكا لأسرة الميرغني وزعامة الطائفة. ليصبح هذا سببا في تشتت قاعدته وتعدد فصائله التي يتضاعف عددها كل يوم.
3- إذن الأزهري وبالرغم من أنه كان رقماً وطنياً لا يمكن التقليل من دوره الوطني إلا أن مواقفه لم تخلو من السلبيات التي أشرت إليها في هذه الحلقات والتي لا تزال تلعب دوراً محبطا في مسيرة السودان الوطن سواء في عدم الالتزام بتنفيذ الفدرالية للجنوب أو العمل على بناء الحزب بناء ديمقراطياً ثم أخيراً تسليم الحزب لأسرة الميرغني والتي قلت عنها وأؤكد على ما قلته أنه بسب هذا القرار فإن الحزب يعيش ماذقاً لا مخرج له منه فلا الحزب لا يمكن أن يعود موحداً تحت دكتاتورية زعيم الطائفة والتي تتوارثها الأسرة كما أنه لا يمكن أن يعود بدونه بسبب تهافت الطامعين في السلطة الذين يتشبثون به لعجزهم في استقطاب القاعدة الاتحادية وهو ما وصفته بأنه حكم على الميت بالإعدام.
4- وإذا كنت هنا أقفل ملف الزعيم الأزهري في الحزب الوطني الاتحادي لنفتح الملف الأخطر في تاريخ هذا الحزب الذي كان هو أمل السودان وهو الملف الخاص بالحزب بعد أن أصبح ملكاً خاصاً لأسرة الميرغني تحت زعامة السيد محمد عثمان الميرغني بعد أن دان له الحزب برحيل الأزهري والشريف حسين الهندي وهو ملف حافل بالكثير المثير الخطر,وهنا وإنصافا للأزهري فإنه لم يكن وحده الذي مكن الميرغني من أن يفرض سطوته الكاملة على الحزب لأن الشريف زين العابدين الهندي لا يقل عنه في المسئولية، بل ربما يتحمل مسئولية اكبر لان الميرغني كان في موقف ضعيف حزبيا بعد انتفاضة أبريل بسبب ارتباطه بانقلاب مايو والذي كان من أول المؤيدين له برقيا ومشاركا له أسريا ثم تصالحه مع النظام بعد ذلك ودخول شقيقه السيد أحمد الميرغني عضوية مكتبه السياسي شريكا في النظام العسكري الذي استشهد في مناهضته الأزهري والشريف حسين، لهذا فإن الميرغني كان مستسلما لإرادة الاتحاديين عندما تجمع الاتحاديون وكانت أغلبيتهم رافضة له وانقسموا حوله بين الأكثرية الرافضة لأي صلة له بالحزب، وأقلية لا تمانع في أن يعود راعياً للحزب بعيداً عن أي عمل سياسي كما كان والده، لهذا فإن الهيئة الخمسينية التي تولت قيادة الحزب بالتراضي بصفة مؤقتة لحين انعقاد مؤتمر عام للحزب، قد رفضت تسميته رئيسا للحزب وانتخبت الشريف زين العابدين الهندي أمينا عاما مؤقتا للحزب، لحين انعقاد مؤتمر الحزب فكان الشريف هو وحده الذي يتمتع بكلمة مؤثرة في الحزب ومحل ثقة قواعده وليصبح مصير الميرغني الذي لم يكن له وقتها أي سلطان على الحزب بل كان مصيره موضوعا للبحث لدى الأوساط الاتحادية، ولقد تباين موقفه بين مرحلتين مرحلة ما بعد الانتفاضة وحتى انقلاب الإنقاذ ثم مرحلة ما بعد الإنقاذ، حيث كان في المرحلة الأولى بانتظار أن يقرر الاتحاديون مصيره وسط جدل محتدم في أوساطهم وبين المرحلة الثانية ما بعد الإنقاذ عندما انتهى به الأمر أن يحكم قبضته على الحزب ويبسط ملكية الأسرة الميرغنية عليه لهذا لابد من تناول كل مرحلة على حدة وإذا كان هناك ما يفرق بين المرحلتين ففي المرحلة الأولى ما بعد الانتفاضة وقبل انقلاب الإنقاذ كان الميرغني تحت قبضة ووصاية الشريف زين العابدين الهندي الذي انتخب أمينا عاما والذي سخر نفسه حاميا له، وفى المرحلة الثانية ما بعد الإنقاذ وهى المرحلة التي انقلب فيها على الهندي حتى أرغمه على الانفصال عنه وتكوين ما سمي بالحزب الاتحادي الأمانة العامة وليتهمه الميرغني بالخيانة الوطنية لمشاركته حزبه الإنقاذ في السلطة، ولعل وجه الغرابة هنا كما سأوضح فان المرحلة الثانية التي قويت فيها شوكة الميرغني ومكنته من إحكام قبضته التامة على الحزب وليصبح وحده صاحب القرار فيه ارتبطت بانقلاب الإنقاذ وبالدكتور قرنق زعيم الحركة الشعبية، حيث انقلبت الموازين لحساب الميرغني مقابل تراجع الشريف الذي كان أول ضحايا الميرغني في المرحلة الثانية.
لهذا لابد أن أتناول كل مرحلة منها على حده .
في هذه المرحلة كان الميرغني يبحث فيها عن موطئ قدم وما كان ليحققه لولا الشريف زين العابدين الهندي. أما المرحلة الثانية فلقد خدمته فيها الإنقاذ وعلاقته بزعيم الحركة الشعبية التي مكنته ليحكم قبضته على الحزب وليصبح الحزب رهن إشارته وهى المرحلة التي تمتد حتى اليوم إلا أنها أصبحت مرحلة تميزت بتعدد وانتشار الفصائل الاتحادية حتى تعدت السبعة فصائل وفى الطريق المزيد.
أما مرحلة ما قبل الإنقاذ فلقد كان الحزب مفككا ومرتبكا بسبب الموقف من الميرغني حيث أعلن الرافضون لأي ارتباط معه أو لأي صيغة حزبيه له وانفصلوا عن الحزب بسببه وأسسوا الحزب الوطني الاتحادي بقيادة السادة على محمود حسنين وأحمد زين العابدين وحاج مضوي بجانب الأعداد الكبيرة التي انصرفت عن الحزب بسببه والذين بقوا في الحزب انقسموا لكتلتين كتلة ترفض أن يكون له أي وضع في الحزب مقابل قلة ترى أنه لابد من صيغة تحافظ على طائفة الختمية، ومع ذلك فان أكثرية الاتحاديين يومها انصرفوا عن الحزب رافضين حالة التردي التي أصابت الحزب وعزفوا عن الانضمام لأي جهة وهى الفترة التي قلت عنها أنها فترة تحالف الشريف مع الميرغني وبسط حمايته له.
تحت هذه الظروف والفرقة والشتات والتي أصابت الحزب وتحديدا في شهر يوليو 1986أعلن تجمع من الاتحاديين وقوى الوسط عن نفسه تحت مسمى هيئة دعم وتنظيم الاتحادي الديمقراطي والتي أعلنت عن نفسها بهدف توحيد الاتحاديين وتجميع قوى الوسط في الحزب الاتحادي الديمقراطي وقد أعلنت هذه الهيئة عن نفسها ببيان نشرته جريدة السياسة في عددها رقم 26 بتاريخ 25 يوليو جاء فيه ما يلي:
(تم بحمد الله في أمسية الأربعاء 16-7-1986 بدار المهندس أول اجتماع لقيام تجمع الاتحاديين وقوى الوسط وقد اختير لهذا التجمع باسم هيئة دعم وتنظيم الاتحادي الديمقراطي- وقد تمت إجازة مذكرة الهيئة وموجهات العمل التي نعلنها اليوم آملين أن يهتدي بها الاتحاديون وقوى الوسط .
لقد تم انتخاب لجنة من أربعة عشر عضوا على أن يتم رفعها إلى خمسة وعشرين وهم السادة د.عمر الصديق طه على البشير-عمر عبد الله- محمد مالك عثمان- محمد فائق-هشام بشير- أحمد مختار جبرة-أحمد وداعة الله-د الشيخ محمد الأمين- عمر العقاد عوض الأمين- سيد العوض عبد الحفيظ باشري- النعمان حسن أحمد وانبثق عن هذه اللجنة مكتب سكرتارية ثلاثي من السادة عبد الحفيظ باشري-محمد مالك عثمان- النعمان حسن وقد اعتمد هذا المكتب ناطقا رسميا للهيئة ولقد جاءت ردود الفعل مبشرة بالترحيب و التجاوب مع الأهداف الوطنية التي تسعى الهيئة لتحقيقها والمؤمل أن تحظى هذه المذكرة بالقبول من جميع القطاعات بالتجاوب معها في العاصمة والأقاليم والمغتربين كخطوة تمهيدية لمزيد من التمحيص والدراسة بمشاركة أوسع من هذه القطاعات
من هنا نناشد جميع قطاعات الاتحاديين وقوى الوسط الوطنية والمتجاوبين مع هذه الأهداف لتجميع قواعدهم بالأحياء ومواقع العمل ودور لعلم توطئة لعقد الاجتماعات المنظمة والله نسال أن يسدد خطانا لما فيه مصلحة الحزب و والوطن العزيز توقيع السكرتارية بأمر اللجنة والاجتماع العام)
وفى نفس العدد من الصحيفة أعلنت الهيئة رؤياها كاملة للأوضاع في الحزب ومواطن ايجابياته وإخفاقاته عبر مسيرته، وفى نصف صفحة كاملة من الجريدة وللأهمية أنقل حرفيا ما جاء في آخر فقرة من البيان والتي جاء فيها ما يلي:
( خامساً لا تنكر الهيئة دور طائفة الختمية في دعم الحزب تجاه قضية الوطن في مرحلة الاستقلال ولا تسقط دورها في المشاركة في الحزب ودعمها لحسم قضية الوطن في هذه المرحلة الخطيرة إلا أن الهيئة تتمسك بديمقراطية التنظيم وحق قاعدة الحزب في تحديد سياسته واختيار قياداته عبر المؤتمر العام والمؤتمرات الإقليمية بما يحقق المساواة والتكافؤ بين كل عضوية الحزب)
وعلى ضوء هذا الإعلان انتظمت العديد من القطاعات عقدت اجتماعات مع القيادات النقابية الاتحادية بقيادة عثمان حسور، حيث عقدت مؤتمرا جامعا بجامعة الخرطوم بالقاعة 102 ثم اجتماع القيادات السياسية بقياد الحاج مضوي بمنزل أحمد مختار جبرة كما عقد اجتماع خاص بنواب الحزب المؤيدين للهيئة والذين بلغ عددهم 37 نائبا بمنزل النائب هاشم بامكار ولم يخلو اجتماع بامكار من طرفة ففي أثناء تداول الاجتماع لتوصياته والتي انتهت بإقرار مشروع ميثاق من عشرة نقاط لتوحيد الحزب، وأن تتبناه الهيئة النيابية تلقى بامكار رسالة تلاها على الاجتماع يحذر صاحبها المجتمعين متهماً بهذا العمل بأنه مؤامرة يقوم بها مندسون من الحزب الشيوعي فما كان من بامكار إلا أن علق على الرسالة قائلا (يا جماعة كان الشيوعيين خلو حزبهم التعبان ده وبدل ما يصلحوا حزبهم جو يشاركونا نصلح حزبنا نرفضهم ليه).
وكانت ثمرة اجتماعات الهيئة إجازة مشروع من عشرة نقاط لتوحيد الحزب وقوى الوسط وتنظيم القواعد توطئة لعقد مؤتمر عام للحزب وكان الميرغني والشريف يومها يروجون لعقد مؤتمر عام للحزب للمجموعة المؤيدة لهم مما دفع بالهيئة أن تخاطب الشريف بصفته الأمين العام أن يتم تأجيل المؤتمر الذي أعلن عن تنظيمه في شهر يناير حتى ينعقد بمشاركة كل الفصائل الاتحادية وقوى الوسط التي تراضت على ميثاق توحيد الفصائل الاتحادية وقوى الوسط والتي أجمعت على عشرة نقاط يقوم عليها المؤتمر العام حتى تتحقق وحدة الاتحاديين والوسط، ولكن الشريف رفض المشروع وتجاهله ومع ذلك لم ينعقد المؤتمر الذي أعلنوا عنه للفصيل الذي جمع بينه والميرغني، كما أنه في نفس الوقت أجهض مشروع الميثاق الذي أمنت عليه الفصائل ومجموعات قوى الوسط ووقعت عليه في 21 أكتوبر 1986 وجاءت نقاطه العشرة كما يلي:
أولاً: الموافقة على قبول مبدأ التوحيد في حزب واحد الحزب الاتحادي الديمقراطي.
ثانيا: الالتزام بالنهج الديمقراطي كأساس لممارسات الحزب من القاعدة للقمة.
ثالثا: قبول السيد محمد عثمان الميرغني راعيا للحزب على النهج الروحي الذي كانت عليه رعاية والده.
رابعاً: العمل على عقد مؤتمر عام واحد لكل الفصائل.
خامسا: القبول بأن الهيئة البرلمانية الحالية للحزب الاتحادي الديمقراطي هي أكثر شريحة تتمتع بالشرعية وعليه يلزم أن يكون لها مركز الثقل في الجهاز الذي ينظم المؤتمر.
سادساً: تمثل الفصائل الاتحادية في الجهاز الذي يتولى تنظيم المؤتمر.
سابعا: الالتزام بوقف الحملات والتحرشات الإعلامية لتهيئة المناخ للوحدة في الشارع الاتحادي.
ثامنا: العمل من أجل الاتفاق على مشروع دستور شامل للحزب تمهيدا لإجازته من المؤتمر.
تاسعاً:الموافقة على استمرارية التمثيل الحالي للحزب في الأجهزة الدستورية القائمة الآن حتى انعقاد المؤتمر.
عاشراً: أن تعلن الموافقة النهائية على هذا الميثاق في مهرجان سياسي عام
لقد كان الميرغني وبسبب ضعف موقفه في تلك الفترة أكثر قبولا للوضع المقترح صوريا بعد أن إطمان على أن الأمين العام للحزب الشريف يقود العمل ضد مشروع الميثاق بالرغم من أنه كان يدعم موقفه الرافض بصورة غير مباشرة، كما أن الشريف زين العابدين فاجأ كل الفصائل الاتحادية عندما افتتح مؤتمر الحزب الفرعي في كردفان بترشيحه السيد محمد عثمان الميرغني رئيساً للحزب مما هيأ الظروف للسيد أن يعيد ترتيب أوراقه ويتخطى مرحلة ما بعد الانتفاضة حيث استرد موقعه القيادي في عامي 88 و89 خاصة بعد أن نجح في تحقيق الاتفاق الذي أبرمه الحزب مع الحركة الشعبية بقيادة الدكتور قرنق، والذي قضى بمنح الجنوب الحكم الذاتي بعد إلغاء قوانين سبتمبر الإسلامية وهو ما أجهضته الحركة الإسلامية بانقلاب 30 يونيو. كما أن فترة ما بعد قبل انقلاب الإنقاذ شهدت تصاعد الخلاف بين الميرغني والشريف زين العابدين بعد أن رفض الأخير الحكومة الإتلافية التي كان نائباً لرئيس وزرائها الصادق المهدي وطالب بانسحاب الحزب من حكومة الصادق المهدي الأمر الذي رفضه السيد محمد عثمان الميرغني وبهذا قفلت هذه المرحلة بأن عض الشريف أصابع الندم على موقفه ضد مشروع هيئة دعم وتوحيد الحزب الاتحادي الديمقراطي وهو الموقف الذي ساعد الميرغني في أن يسترد قوته ولم يعد بحاجة للشريف بعد أن تصاعدت الخلافات بينهما والتي انتهت بأن يصبح كل منهما فصيل قائم لذاته و لتنتقل |أوضاع الحزب بينهما لفترة ما بعد الإنقاذ، وهى الفترة التي حفلت بالكثير من الأحداث الكبيرة وكان من أهم العوامل التي مهدت الطريق للميرغني أنه ولأول مرة في تاريخ العمل السياسي في السودان أن (يشرف) زعيم طائفة الختمية الحبس مع القادة السياسيين عقب انقلاب الإسلاميين، لتشكل هذه الفترة نقلة نوعية خاصة في مسيرته، حيث أنه لم يحدث أن اتخذ أي انقلاب عسكري مثل هذا الموقف مع زعيم الختمية لأنه دائما الأسبق لتأييد الانقلاب، ولكن يبدو أن اتفاق الحزب مع الحركة الشعبية على إلغاء قوانين سبتمبر وهو الاتفاق الذي دفع بالجبهة الإسلامية تنظيم الانقلاب كان هو السبب الذي وقف خلف اعتقال الميرغني بين منظومة القادة السياسيين,
وتبقى فترة ما بعد الإنقاذ هي الأكثر إثارة في تاريخ هذا الحزب، بل وفى تاريخ القوى السياسية بعد أن أصبح السيد الميرغني رئيسا للتجمع وهى فترة حافلة بالتناقضات والإخفاقات وهذا هو موضوع الحلقة القادمة.
صحيفة المشهد الآن
النعمان حسن
*************