رأي ومقالات

عبير زين : يومُ الطين!


اشتهر العصر الأندلسي بازدهار القصور والحدائق وتفجُر الإبداع الشعري والغنائي والموسيقي وبرزت روائع القصص الواقعية التى سكنت مُخيلة التاريخ وشكّلت نواة الرومنسية فى وجدانه، و قصة يوم الطين من أشهر القصص التى سطّرت عن الحب كان بطلها المعتمد بن عباد ملك اشبيلية و صاحب أكبر مملكة في عهد ملوك الطوائف وحدثت هذه الواقعة مع زوجته أمّ أولاده إعتماد المُلقبة بالرميكية.

كلما قرأتُ هذه الواقعة أتتنى روائح المسك والعنبر والكافور وانا أتأملها بعينُ فاحصة إذ لا تمُر على مرور الكرام بل تضعُ فى كل مرةً أثراً لا ينمحى ابداً ، فكم نحنُ بحاجة الى سماع مثل هذه القصص فى الوقت الذى تضجُ فيه محاكم الأحوال الشخصية بقضايا الطلاق والخُلع والنفقة والحضانة وتطفو فيه الخلافات الزوجيه على سطع المجتمع، بل ويتشدق الجميع بالمسلسلات التركية بحثاً عن رومنسية تائهة وسط الهموم اليوم اضعها بين أيديكم قصة حقيقية واقعية وليست محض خيال كاتب ولا صنع سيناريست.
رأت إعتماد ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهنّ رافعات عن سوقهنّ في الطين، فقالت للمعتمد: أشتهي أن أفعل أنا وجواريّ مثل هؤلاء النساء، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وصيّر الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين.

وللمعتمد مواقف أخرى أقوى من تلك المروية عن قيس وليلي أو روميو وجولييت، كقصة زواجه و حبه لإعتماد الرميكية التى كانت جارية مملوكة، و ما صاحب هذه الحياة من أحداث مثيرة
ففي يوم كان المعتمد يتنزه مع وزيره ابن عمار على ضفاف نهر الوادي الكبير قرب مرج الفضة فأُخذ بمنظر الماء المتموج فقال:(صنع الريح على الماء زرد) وطلب من وزبره ابن عمار تكملة البيت فعجز عنه ، وكان على شاطئ النهر جوارٍ يملأن الماء في جِرار فقالت إحداهن (أي درع لـقـتـالٍ لـو جـمــد) فألتفت المعتمد إلى حيث الصوت فلم تكن الصورة بأقل جمالاً من المنطق فبهر بها واشتراها من سيدها وأعتقها ثم تزوجها وكان لا يرد لها طلباً ويفعل المستحيل ليُلبى رغباتها، فطلبت منه ذات يوم أن يُريها الثلج، ولما كان الطقسُ فى تلك البيئة لا بوفر مثل تلك الأُمنية فقد قام المعتمد بزرع أشجار اللوز على جبل قرطبةحتى إذا نور زهره بدت الأشجار وكأنها محملة بالثلج الأبيض.

ولكن ولأن حال الدنيا فى تقلب مستمر فقد أغار جيش ابن تاشفين على إشبيلية وأسر المعتمد وإعتماد وأبنائه ونسائه ، وأُرسل الجميع إلى (أغمات) بإفريقيا ،و عاشوا حياة الفقرو ذاقوا معاناة وضنكاً، حتى أن بناته أُضطررن الى بيع الغزل حتى يكفيهن الحوجة وسؤال الناس فإحتج المعتمد على ذلك ووبخ إعتماد التى كانت تحثهن على ذلك وقال لها انها لن تنسى أصلها (أى أنها كانت جارية) فغضبت عليه وقالت (مارأيتُ منك خيراً قط) فرد عليها (حتى يوم الطين؟) فما كان منها إلا ان بكت واستسمحته … ماتت على إثر ذلك الضنك بطلة قصتنا الرميكية ومات المعتمد بعدها بأيام وجداً وحزناً عليها.
همسة من رائية المعتمد بن عباد:

ترى بناتك في الأطمار جائعة **يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة** أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية** كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
من بات بعدك في ملك يسر به** فإنما بات بالأحلام مغرورا

بعض المعلومات الواردة مأخوذة بتصرف من كتاب نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب- المؤلف : أحمد بن المقري التلمساني- المحقق : إحسان عباس- الناشر : دار صادر- بيروت – لبنان (ج1 ص444).

همسات – عبير زين


تعليق واحد

  1. الأندلس بيئة كانت غنية بالتراث العربي وقد نقل لها الأمويون من الشام كل تراثهم العربي والإسلام وقاموا بزراعة أول شجرة نخيل في أوربا وكاد نور الإسلام أن يغمر كل أوربا لولا انغماس حكامهم في الملاهي والشهوات ونسيان المهمة الكبيرة التي جاء من أجلها أجدادهم وقد قال صالح الرندى رحمه الله قصيدة كلها عبر للأجيال القادمة عن الأندلس منها/
    كل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ فلا يُغرُّ بطيب العيش إنسانُ
    هي الأيامُ كما شاهدتها دُولٌ مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ
    وهذه الدار لا تُبقي على أحد ولا يدوم على حالٍ لها شان
    تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من ! ;أسفٍ كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ
    على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ
    حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ
    حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ
    يا غافلاً وله في الدهرِ موعظةٌ إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ
    بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ
    يا ربَّ أمّ وطفلٍ حيلَ بينهما كما تفرقَ أرواحٌ وأبدانُ
    وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
    يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ
    لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ
    وكان اقتباس للفظ القراني عظيماما يملكن قطمير والقطمير كما قال المفسرون هو (النواة التي داخل التمرة) وهذا حال صحبة وهذه عظة لنا من الغرور والكبرياء وأن دوام الحال من المحال
    النيل العوض الحليو
    ولاية الجزيرة ـ قرية السوريبة

  2. رحم الله يوسف بن تاشفين ثاني ملوك الدولة المرابطية بالمغرب ورحم الله المعتمد بن عباد ملك اشبيلية وحشره الله يوم القيامة مع الفقراء ، أظله عيد وهو في السجن باغمات احدى قرى مدينة مراكش فقال يصف هذا المشهد الذي يقطع نياط القلوب لما راى بناته :
    فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فسائك ‏ العيد في اغمات مأسورا
    ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن ‏ للناس مايملكن قطميرا
    برزن نحوك للتسليم خاشعةً ابصـــارهن ‏ حسيرات مكاسيرا
    يطأن في الطين والأقدام حافيةً كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
    أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه فعاد فطرك للأكباد تفطيرا
    قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً فردّك الدهر منهياً ومأمورا
    من بات بعدك في ملكٍ يسرّ به فإنما بات في الأحلام مغرورا
    كان سبب اسره عند انقسام الاندلس الى دويلات صغيرة وظهر ملوك الطوائف بها استنجد مسلموها بيوسف بن تاشفين فخلع ملوك الطوائف وحدها مملكة واحدة الى غانا جنوب بوركينا فاسو الان ،واستنجد المعتمد بن عباد بملوك الاسبان ضد بن تاشفين فانتصر عليهم فاسر المعتمد اخر ملوك اشبيليا .
    لكل شيء إذا ما تم نقصان …… فلا يغر بطيب العــيــش إنسانُ

    هي الأمور كما شاهدتها دول …… من سرهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ

    وهذه الدار لا تُبقي على أحد …… ولا يدوم على حال لها شانُ
    واستغفر الله من كف ذنب