تحقيقات وتقارير

جنوب كردفان .. هل تعلو زقزقة العصافير على دويّ المدافع ؟!

الحرب لا تقرّر من يكون على صواب، ولكنها فقط تقرر من يبقى على قيد الحياة؟! وقد لا يبقى أحد، كما أن الحيوان يقتل زميله في دقائق وبلا نفقات.. ولكن في الحرب يدفع الإنسان ثمناً باهظاً ليقتل خصماً). تلك عبارات ردّدتها في نفسي ملايين المرات، وأنا أتجوّل في شوارع مدينة كادقلي، حاضرة ولاية جنوب كردفان، والمكان هو المكان الذي عرفته من قبل، ولكنه تبدّل، وأصبح كما لم يكن من قبل، والحرب حينما تشتعل لا تميز بين الأشياء، ولا تتوجه الرصاصات وقذائف المدافع قاصدة أهدافها التي أطلقت لأجلها، وحتى أشجار (المانجو) التي تفرد أغصانها، وكأنها تقف على هيئة الإنسان، وتخاطب السماء رافعة أطرافها تطلب وتردد ذات العبارات التي تقولها الآلاف من النساء والشيوخ والأطفال، وتعبر بلغتها الخاصة طالبة السلام، ولعل السائل الذي تسقطه مع كل حبة تسقط من ثمارها على الأرض تريد أن تؤازر به أهل المنطقة الذين تتدفق دموعهم هميرة نتيجة الواقع الذي يعيشونه.
ثكنات عسكرية ..
المواشي تسير وخلفها الرعاة ولكنهم لا يهشّون على أغنامهم بالعصيّ، ولكنهم يحملون ما تجود عليهم به طبيعة الحرب من آليات، حتى النساء خرجن من دورهنّ وتركن تربية أبنائهنّ وتوجهن صوب معسكرات الدفاع الشعبي، والتي بدّلت أزياءهن من الثوب السوداني إلى أزياء تشابه في تعدد ألوانها جلود النمور. الأطفال هم الآخرون يعيشون واقعاً مأساوياً، فدوي المدافع حسبما يقول السكان أصبح هو النغم المألوف لمسامعهم، وقاذفات الكاتيوشا لم تترك لم ملاذاً آمنا يأوون إليه، فقد وصلتهم حتى في مدارسهم وأصابت الكثيرين منهم، وتحولت بعض المدارس التى تقع على أطراف المدينة إلى ثكنات للعسكر، والجميع تسيطر على مجالسهم المعلنة والهامسة أحاديث القتال وأساطير الطابور الخامس، ولعل بعض الإشارات قد أرسلت صراحة من المسئولين في الكثير من الخطابات الجماهيرية لتطابق بذلك ما يقوله العامة في مجالسهم، والشيء الوحيد الذي يخرج الناس عن المألوف هو الانتصارات التي يحققها الهلال كادقلي، وتقدمه في ترتيب أندية الدوري الممتاز، فإستاد كادقلي يقف شامخاً ويأبي إلاّ أن يتحدث بلغة الرياضة المتسامحة، ويقول: إنه يرفض أن تحترق نجيلته التي تنتظر الأيادي التي تغرسها، أو ألاّ تجد المقاعد التي تركب من يجلس عليها من الجمهور، وكذلك المستشفى والميناء البري، فكلها تنتظر إكمال مراحلها الأخيرة.
اتفاق وسيطرة ..
هكذا هي الأجواء التي استقبلتنا بها كادقلي، برفقة زميليّ “فتح الرحمن شبارقة” من صحيفة الرأي العام، و”عبد الباسط إدريس” من السوداني، ونحن نرافق وفداً كبيراً من الحركة الإسلامية السودانية، برئاسة أمينها العام “الزبير أحمد الحسن” والذي حضر نفرة البنيان المرصوص بولاية جنوب كردفان، وزار العديد من المرافق، وخاطب العديد من المناسبات، ولعلّ زيارة مقر الفرقة (14) مشاة بكادقلي كانت مختلفة، فالأشجار التي جلسنا أسفلها كانت زقزقة عصافيرها تخاطب الوجدان بأصوات متداخلة، والرابط بينها هو مناداة السلام الذي بدت الدعوة إليه في خطابات المسؤولين يشوبها الحذر من التمادي في تهيئة الناس إليه، فجميعهم يعرف أن روح المقاتل تتأثر سلباً وإيجاباً بالجرعات التي يتلقاها من مختلف الوسائط، وتبدو إشارات الخوف من عدم الوصول إلى اتفاق سريع هي المسيطرة على الكثير من التعابير، وبدا ذلك أكثر وضوحاً في كلمات الأمين العام للحركة الإسلامية “الزبير أحمد الحسن”، ووالي ولاية جنوب كردفان “أحمد هارون” واللذان طلبا من (الجيش) اليقظة والتحسب لضربات وهجوم محتمل من قطاع الشمال، استباقاً لعملية التفاوض المقبلة، ولعل تحذيرات “الحسن” بدت أكثر وضوحاً، سيما عندما قال: إن وجود القوات المسلحة يمثل ضماناً لاستقرار السودان ووحدته، وأنه لولاها لتحولت البلاد إلى فوضى.
بساطة لغة ..
لغة أخرى تفاعلت معها جماهير مدينة كادقلي، واستخدمها والي جنوب كردفان “أحمد هارون” بدأها بخطابه لقادة وأفراد القوات المسلحة بالفرقة (14) مشاة، حيث ذهب إلى تفكيك الكلمات إلى مترادفات بسيطة يفهمها الناس، سيما حينما ذهب إلى تعريف مترادف (رئيس مفوضية تخصيص الإيرادات)، فقال مخاطباً الجنود بأنها ترادف مدير المكتب المالي للفرقة من حيث توزيع الأموال على الوحدات العسكرية، وربط الحديث عن وزير الشباب والرياضة بأندية الهلال والمريخ التي (يغلبها) هلال كادقلي، كما ربط منصب وزير التعليم العالي بالقول: (دا كمندان الجامعات الفي السودان كلها)، أما إذاعة كادوقلي هي الأخرى كانت تسمعنا عبر مذياع عربة مديرها الأستاذ عكاشة أغاني وأناشيد تخاطب الناس داعية للسلام، وتضع كلمات الرفض في أعلى المراتب، حينما يأتي الحديث عن الحرب، وتقول في أبسط تعابيرها بلسان المغني: “نحن ما دايرين خصام .. نحن بس دايرين سلام”.
معتمد كادقلي “أبو البشر عبد القادر حسين” رغم كلماته المختصرة في العديد من الاحتفالات إلا أنه تحدث في الكثير منها بلغة بسيطة، وأرسل إشارات تفيد بأن وجود الطابور الخامس قد تراجع كثيراً بفضل تعاون المجتمعات وسكان المدينة مع القوات النظامية، سيما حينما تحدث عن تخطيط الحركة الشعبية لاستغلال النساء في التعاون معها في نقل أخبار ومعلومات القوات المسلحة، ليشاركه في تأكيد تلك المعاني الوالي “أحمد هارون” والذي سعى إلى تبسيط المفردات للمواطنين، وذهب للحديث بمفردات العامة، حيث قال في ذلك مخاطباً تجمعاً نسائياً في قيادة الدفاع الشعبي يضمّ (2705) من النساء الذين يرتدين (الكاكي)، ويتدربن على حمل السلاح، قال: “يا اخواننا المرأة عندنا تشجع الرجال لما يدفنو دقن، وتمرقهم من البيوت عشان يقاتلو الأنانيا”، وفي اتجاهات أخرى أرسل “هارون” العديد من الرسائل قصدت تمتين جبهته الداخلية، وإرسال رسائل بالبريد السريع لمن هم في الخارج، حيث أكّد بدايةً أن المعركة ما زالت مستمرة حتى يتعرف الطرف الآخر بأنه عن طريق الحرب لن يستطيع أن يحقق النصر على القوات المسلحة، وذهب لإرسال رسالة مباشرة لحملة السلاح، حينما قال: “كفى حرب وكفى دمار وترويع للنساء والشيوخ والأطفال، وأطالبهم بأن يأتوا للتفاوض وللسلام”، أما أمين الاتصال التنظيمي للحركة الإسلامية “عبد الله يوسف” هو الآخر فذهب في منحى مشابه لما عبر عنه سابقوه، وقال: إن الله ابتلى جنوب كردفان بجوار أصبح ثغرة يتهدد منها اليهود والنصارى السودان، وقال: إن أمانته رصدت جائزة للتنافس بين الولايات تتمثل في منح عربة بقيمة (300) ألف جنيه للولاية التي تكمل بناءها التنظيمي بشكل كامل خلال الفترة المحددة لذلك.
تواصل اجتماعي ..
ولعل الأمين العام للحركة الإسلامية “الزبير أحمد الحسن” أراد من خلال كلماته مخاطبة الشباب بشكل واضح، حينما أكد أنهم يعملون على ترتيب أوضاع المؤتمر الوطني وتجديد دماء قيادته، وأن وجود الحركة الإسلامية يجعل من اختيار القيادات ووضع البرامج يتمّ بمعانٍ من الإيمان، ودعا لردع النفس البشرية وإغراءات السلطة، التي قال: فيها شيطان كبير على النفس، ويعلي من شأن الخلاف في الرأي بين الإخوان، وطالب بالعودة للدين لتؤسس وتردع النفوس، وفقاً لمنهج ودعوة الحركة التي قال: إنها تقوم على الوسطية والحسنى والتعايش بين الأديان، وقال: إن الدم الذي يسيل من طرفي الحرب كله دم سوداني.
ومن جانبه القيادي بالحركة الإسلامية، “د.أحمد محمد علي الفششوية” استبق كلماته بلغة الدمع وهو يطالب قيادات وأعضاء الحركة الإسلامية بضرورة الاهتمام بالتواصل الاجتماعي ومفارقة ملذات الدنيا، وأضاف: (نحن تركنا العلم، ولابد لنا أن نوثق صلتنا بالعلم، وأن نقرأ ونطبق)، وقال: المساجد والجامعات والميادين الآن خلت من أعضاء الحركة الإسلامية، وزاد بالقول: (دخلها غيرنا بتطرف).
وفي نهاية الزيارة حضرتني مقولة شهيرة لمؤسس منظمة اليونسكو “فردريك مايور” والتي قال فيها: (عندما بدأت الحرب في عقول الرجل، في ذات الوقت بدأت في عقولهم فكرة الدفاع عن مبدأ السلم).

كادقلي – أحمد دقش
صحيفة المجهر السياسي