فدوى موسى

تفاصيل صغيرة

تفاصيل صغيرة
الليل يدخل في ثلثه الأخير وأنا أغالب الصحيان وأبحث عن النوم.. تراودني أطياف التفاصيل الصغيرة.. فأتقلب يمنة ويسرة.. وعند تعسر أمر الدخول في السبات العميق.. حسمت أمري وتناولت الأوراق والقلم.. ماذا أكتب.. وأستاذي الجليل قد أفادني بأن ما كتبته عن «بابكر بدري» رهن الضياع لأنه لم يجد وريقات «سياج» التي خصصت بها ذاك الهامة الوطنية والـ«ناشيونال هيرو» بطل تعليم المرأة.. وذاكرة ذلك النهار تحتفظ أيضاً بأطياف للأستاذ «حنفي محمد» الذي استطاع أن يؤسس قلعة من قلاع العلم لتعليم النساء بالكلاكلة صنقعت.. والنوم لا يبديء أي دلائل للدخول إليه.. ويعاودني طيف ذلك الرجل الذي لا أعرف من سلطه عليّ كأنه الشخصية التي كنا نبحث عنها زمن الطفولة بين رسومات «مجلة ماجد».. فضولي.. أتجاوز النعاس وأتناول جرعات من حليب مع قطعة رغيفة لتذهب كل محاولات التناعس أدراج الرياح.. أترك الأوراق وافتح التلفاز.. أغنية هنا.. فيلم هناك.. طواف على الكعبة.. وأخبار المظاهرات الليلية.. أطفيء التلفاز وأعود للأوراق والذاكرة توغل في التفاصيل الصغيرة فيجئني طيف تلك «الشابة».. كتلة من الخبث لا قبل لي بها.. فاسأل نفسي ما لي وما لها.. لا عليّ بها.. وعبارات تتداخل على مسامعي وبعض حالات الوهن الإنساني ألمسها بداخلي.. أذكر جيداً تلك المتشردة بموقف المواصلات وهي مطروحة على الأرض تبكي.. ألوم نفسي لِمَ لم اسألها عن سر بكائها.. ولكن أعود وأقول ماذا كنت سأفعل لها.. هل كنت سأوفر لها المأوى.. فيجيء طيف صديقتي يذكرني بمقولتها الدائمة لي «يا صديقتي تعاملي بنظرية تتش آند موف» وأتلبس النظرية حد الثمالة رغم سلبيتها تراني أتحرك من إحساس إلى آخر دون محاولة التعمق والتغلغل لأني أخاف أن أغرق حد الموت في بحار الإنسانية التي أجد مساحاتها متمددة بداخلي.. لذا لابد من قطع الطريق عليها.

يا أيها النوم الغالي حاول الوصول إليّ ابنتي.. وأبويها.. يغطون في النوم العميق لعلهما يحلمان فإني ألحظ انفراجات على وجيههما.. ماذا عساهما يشاهدان الآن في دنيا الأحلام.. لا عليّ بهما.. نفسي نفسي.. من عمق حالة الاستيقاظ أقف تأملاً وعيني تلقط صورة العندليب الراحل على صفحة تلك الصحيفة التي تنبهت إلى أنها كانت جواري وخاطري يلهج فرحاً حزيناً للتكريم الذي حف به الشعب السوداني عندليبه الراحل.. يا له من شعب وفي وطيب.. في تضرعاتهم بالدعاء لهذا الذاهب إلى ربه.. وأرشف بعضاً من الماء فتعمل بداخلي ماكينة الحسابات وآخر الشهر قد أقبل «حق.. وحق.. وحق..».. وعندها ثقل رأسي وبدأ يتناعس وفي خاطري كلمة دائماً كان يتفوه بها جدي عندما يستعصي عليه الأمر «أمك».. فأردف عليها ثلاث مثيلاتها.. واتكيء على جانبي الأيمن واستقبل القبلة هكذا يقولون لنا حتى لا يأتكم الإبليس بين فرقات المراقد.. وملفات جمة تأتيني من أرشيف ذاكرتي فأناورها بحالة «الزوغان» حتى لا أفسد عليها حلاوتها ولا تفسد عليّ حالة «البله» التي تنتابني في تلك اللحظات.. فترتفع أصوات المآذن.. والتكبيرات تحاصر الأثير من حولي فأحس ببعض الراحة النفسية.. وهكذا تبدأ تفاصيل اليوم القادم بكل حراكه المعتاد وارتجاليته المألوفة أحياناً والناشذة أحياناً أخرى..

آخر الكلام:

وفي كل هذه الحالات الصاخبة تتجلى بداخلي لحظات الاحترام والتقدير لأستاذنا «بابكر بدري» الذي وهبنا فرص الحياة النادرة أن تحمل الأوراق همومنا وتفاصيلنا الصغيرة التي يضيق أحياناً عنها صدورنا.. فنجد الراحة على صفحات الأوراق وعودة إلى حراك التفاصيل الأخرى..

مع محبتي للجميع..

سياج – آخر لحظة
[email]fadwamusa8@hotmail.com[/email]