جعفر عباس

الهرب من الضرب «مشروع»

الهرب من الضرب «مشروع»
لا أذكر ان أبي – رحمه الله – ضربني سوى مرة واحدة، فرغم انه كان أميّا ولا يفهم في أصول علم النفس، وأميا لم يسمع بفرويد او فريد الأطرش، فإنه لم يكن يلجأ إلى الضرب ما لم يفض به الكيل، وكانت عقوبة الضرب تسقط عن كل من ينجح في الفرار من أمامه ركضا، لأنه لم يكن من فصيلة الآباء الذين ينصبون الكمائن لعيالهم لمعاقبتهم على جرم ارتكبوه قبل ساعات أو أيام، بل كان يطبق النظرية القانونية التي تسقط الجرائم وبالتالي العقوبات بـ«التقادم»، ومثل معظم أبناء وبنات جيلي فإنني لم أكن «قليل أدب»، ولكننا بوصفنا أطفالا وصبية كنا نقع كثيرا في المحظور، ونستحق العقاب.. والغريب في الأمر أن أهلنا كانوا يعايرون من لم يكن يجيد السباحة في بدين وهي الجزيرة النيلية التي أنتمي إليها، ولكنهم في نفس الوقت كانوا يضربوننا إذا ضبطونا ونحن نعوم في النيل، بذريعة أن فيه تماسيح او ان التيار قوي وجارف، ولم يكن بإمكاننا ان نقول لهم: كيف تريدون منا أن نتعلم السباحة، وتعاقبوننا في نفس الوقت عندما نسبح؟
وأُقر بأنني ضربت كل واحد من عيالي مرات عديدة، لأنني برغم النظارات والنظريات موديل قديم، مازلت اعتقد ان الضرب قد يكون مجديا في بعض الحالات، بشرط ألا يكون قاسيا وعنيفا، فالغرض من ضرب الوالدين للعيال هو الزجر وليس الإيذاء، ومن ثم فإنني استهجن قيام بعض الآباء والأمهات بضرب عيالهم حتى تسيل منهم الدماء او تظهر على أجسامهم كدمات،.. وخلال فترة عملي مدرسا ايضا كنت أمارس الضرب بحق الطلاب الذين يسيئون السلوك، ولم أعاقب قط طالبا لأنه لا يستوعب الدروس او يرتكب أخطاء فيها. بل دخلت اكثر من مرة في مشاحنات مع زملاء مدرسين كانوا يفرطون في معاقبة الطلاب جسديا، ولا اعتقد ان الضرب على يد المدرس او أحد الوالدين، يجعل التلميذ او التلميذة أكثر اهتماما بالدروس او أكثر قدرة على الاستيعاب، وقد تعرضت في المرحلة الابتدائية للضرب الموجع مرارا بسبب جدول الضرب.
ومناسبة هذه الشجون قصاصة قديمة من صحيفة سعودية تتحدث عن صبي في المرحلة المتوسطة في مدينة الدمام طفش من بيت العائلة، وتم العثور عليه في مشارف مدينة الرياض بعد أن ضربه ابوه بسبب ضعف تحصيله المدرسي، وبعد عودته الى البيت قال الصبي انه سيكرر المحاولة، وكان قد سبق له ان هرب الى مدينة النعيرية بعد أن ضربه أبوه،… وبكل ثقة أقول لمثل هذا الأب ان ولده هذا لن يجتاز المرحلة المتوسطة حتى لو استعان بالموساد والسي آي إيه لمراقبته وإرغامه على الاهتمام بدروسه،.. خلاص.. فالدراسة ارتبطت في ذهنه بالتعذيب والإذلال، ولن يتردد في حال تعرضه للضرب المنزلي مرة أخرى في الهرب الى جوانتنامو،.. ومن الخير لكل أب وأم ان يعيش عياله معه تحت سقف واحد وهم ضعيفو التحصيل الأكاديمي، عوض ان يهربوا الى عالم قاس لا يرحم الضعفاء والعزل،.. وقد يبدو غريبا ان أتعاطف مع الصبي هذا، الذي قد يكون متلاعبا ومهملا ومتقاعسا، ولكنه ليس المسؤول عن أوجه القصور تلك.. فيا أخي الذي ضربت ولدك ثم تألمت عند هروبه ولم تنم حتى عاد الى البيت، جرب معه سلاح الترغيب، فالكلمة الطيبة تأتي في غالب الأحوال بنتائج أفضل من الجلد، أما إذا لم ينفع معه الكلام الطيب فلا ترغمه على الذهاب الى المدرسة، وألحقه بعمل يدوي في بيئة بلا تكييف هواء، وسترى كيف انه سيبحث عن واسطة بعد أعوام قليلة للالتحاق بالفصول المسائية!!

[EMAIL]jafabbas19@gmail.com [/EMAIL]

تعليق واحد

  1. الأستاذ العزيز جعفر عباس تحية طيبة وبعد .. فلقد تناولت اليوم موضوعا” من أهم وأكثر المواضيع طرحا” في الآونة الأخيرة .. في السابق لا تجد من يلوم من ضرب إبنه ولو أوجعه وقسى عليه!!! ذلك أن تلك الفترة كانت جافة والحياة الصعبة والخشونة الظاهرة .. صحيح أن الضرب المبرح قديما” وحديثا” غير مجدي وغير تربوي لكنه في السابق أهون .. أذكر قصة لشاب أعرفه تمام المعرفة عانى من ضرب أبيه ما لم يعاني الحمار من صاحبه !!! ومن إهاناته المتكررة وأمام الناس!! فقط لأنه كان من أقل أبنائه في التحصيل الدراسي؟؟ .. ثم ماذا إستفاد الأب من ضرب إبنه وإهانته؟ خرج الإبن من عنده وهو إبن 17 عام وهو الآن في الثلاثين من عمره ومتزوج ولديه أبناء ولا يريد أن يرى أبيه!! وأبوه الآن مقعد وحالته النفسية تزداد سوءا” بسبب تخلي إبنه عنه .. صحيح أن الإبن يلام على قسوته تجاه إبيه .. لكن الأب يلام أكثر لأنه نزع روح المحبة والوئام بينه وبين إبنه !!! فرسالتي إلى كل أب أن يكون خير قدوة لأبنائه ومن تحته من رعية ..وإن أخطأ إبنك أو إبنتك وكان لا بد من الضرب فلا يكون الضرب مبرحا” وقاسيا” حتى لا تزرع الكراهية في نفوس أبنائك وأهلك ..دام قلمك نابضا” أستاذي العزيز .