رأي ومقالات

سليمان عبد الله حمد : كتاب الغناء في السودان

نتناول في هذا المقام كتاب الصحفي المبدع معاوية حسن يس (كتاب الغناء السوداني) حيث أنه ألقي حجراً من الحجم الكبير في البركة الثقافية الراكدة بصدور كتابه الضخم من تاريخ الغناء والموسيقي في السودان.. من أقدم العصور حتي 1940 في 680 صفحة. ما عده النقاد والمهتمون بالنشاطات الفنية والموسيقية مساهمة غير مسبوقة منذ عقود في حقل الدراسات السودانية الذي قلت المساهمات فيه حتي علي الصعيد الأكاديمي.
ناشر الكتاب هو مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي تحت رعاية رجل الأعمال السوداني محمود عثمان صالح ويمثل الكتاب الجزء الأول من موسوعة تاريخ الغناء والموسيقي في السودان التي ألفها في أكثر من ألف صفحة من القطع الكبير الصحافي والإذاعي السوداني معاوية حسن يس، وهو جهد استغرقه أكثر من 20 عاماً، من البحث والتمحيص والتدقيق والمقابلات النادرة والصور التاريخية الثمينة وقد تولي التقديم إلي الجزء الأول من الموسوعة ومؤلفها الشاعر السوداني محمد المكي إبراهيم الذي يعد أحد أبرز أعلام الفكر السوداني المعاصر وهو سفير سابق للسودان في عدد من الدول، يقيم حالياً في الولايات المتحدة.
ويقول أستاذ الدراسات السودانية المعروف الدكتور عبد الله علي إبراهيم في تقديمه للجزء الثاني من الكتاب-الموسوعة: سيعجب القارئ بسعة حيلة المؤلف من جهة المصادر التي استعان بها في تأليفه . ويضيف: هذا كتاب نافع لن تعود الكتابة عن الأغنية السودانية المعروفة بعده كما كانت قبله. وسيبقي مثله في وكد البحث وتحري المصادر وبراءة الخاطر قدوة تُحتذي في حقول أخري .
تفاعل وامتزاج طوعي
يقول الشاعر محمد المكي إبراهيم في تقديمه للجزء الذي صدر حديثاً: في هذا السفر النفيس ينقب المؤلف في تاريخ الغناء والموسيقي في السودان منذ الجذور الأولي إلي مراحل التطور والارتقاء مستخدما في وضع هذا الكتاب الفريد ذاكرة المؤرخ ومنهج السوسيولوجست ومسحاة الآثاري ليتتبع نشوء الغناء السوداني في اعماق التاريخ القديم لحضارات نوبيا وميروي وكوش مع رصيفاتها من حضارات السودان في الجنوب وتقلي والفونج ودارفور، وفي تفاعلات تلك الحضارات السودانية فرادي ومجتمعة مع حضارة الفراعين وحضارة بيزنطة التي رفعت لواء المسيحية في السودان علي مدي ألف عام ومن بعدهما مع حضارة العرب والمسلمين .
ويضيف: عمل صعب ولكنه عمل جليل فمن خلاله يطل علينا وطن واحد لشعب واحد متعدد الثقافات قادر علي التعايش، والإصغاء لحضاراته المكونة معتزا بكل جزئياتها وسامحا لها بالتفاعل والامتزاج دون عقد او تعقيدات. وفي غضون ذلك يكشف المؤلف للقراء جمال السودان القديم و الجديد واعتزازه بمكوناته الحضارية وذلك من خلال التطور التدريجي لواحد من احب أشكال الثقافة إلي القلوب هو فن الموسيقي والغناء. ثم يخرج من متاهة الماضي بما فيها من عماء التكوين الأول وجزافيته وقابلياته للاستكناه ليدلف بنا إلي الأزمنة الحديثة حيث يتوقف كل شيء علي التوثيق والتدقيق
ويقول محمد المكي إبراهيم عن المؤلف معاوية يس: للكاتب باع لا يجاري، فهو المؤرخ المدقق المحقق والصحافي الشاهد علي عصره، والرجل الذي التقي بالمبدعين المعنيين وسمع منهم وناقشهم وجادلهم واطلع علي رواياتهم للأحداث ومحصها وضاهاها بروايات الآخرين وهو إلي ذلك متفهم لفن الموسيقي ولفن الشعر الذي يقترن به في تقديم الأغنية كجملة لحنية وشعرية موقعة علي نسق فني معهود وغير معهود .
ويختم الشاعر تقديمه بالقول: من فصوله الأولي وحتي منتهاه يتمتع هذا السفر بمقروئية عالية وجاذبية شديدة تدفع القارئ من فصل إلي فصل ومن باب إلي باب مستزيدا متطلعا حاملاً أسئلته وواجدا عليها شافي الإجابات. استمتعت بهذا الكتاب رغم محدود علمي بالموسيقي والغناء ووجدت في متابعة فصوله متعة كبري فكيف بالغاوين الحقيقيين ـ وما أكثرهم تحت شمس السودان المغنية- من أرباب الطرب والأريحية ممن يذهلون عن أنفسهم متي تملكتهم نشوة الطرب .
الاهداء والاستهلال
يهدي المؤلف الجزء الأول من موسوعته إلي الشعب السوداني العظيم الذي من ضعفه يصنع قوته. ومن قوته يستمد قدرته علي البقاء (…) أهديه هذا الجهد فهو منه وإليه، عساه يكون قطرة في محيط تاريخه . ثم يهديه إلي عميّ وأخويّ الكبيرين وصديقيّ الفنانيْن العظيميْن محمد عثمان حسن وردي وعبد الكريم عبد العزيز الكابلي، وإلي صديقي الدكتور نزار محمد عبده غانم .
ويشرح المؤلف، في مقدمة كتابه، الرحلة التي قطعها في سياق تأليف الموسوعة، والزيارات التي قام بها لجمع مادتها، والشخصيات التي التقاها وساعدته في التدوين والحوارات. ويقول: أحمد الله، وهو أهل الحمد، أن وفقني إلي إنجاز هذا السفر الذي استغرق العمل فيه أكثر من عقدين. عسي أن يكون علماً نافعاً مفيداً، بما يتطرق إليه من جوانب من حياة الشعب السوداني تفتقر إليها مكتبة الدراسات السودانية . ويضيف: آمل أن أكون قد وفقت إلي اختيار عنوان محافظ ومحايد يسهل علي أنصار الحداثة وخصوم الاستلاب، وعلي عشاق التراث الذين يقدسونه، علي حد سواء، الرجوع إليه من دون حَسَسٍ . ويختم استهلاله للجزء الأول بالقول: إن وجد القارئ كتابي هذا خير جليس فذاك المني وغاية المشتهي. وإذا ألفاه مشوباً بأخطاء وهنّات فذلك أمر أتحمل وزره وحدي
فجر الأغنية الحديثة
يتناول المؤلف في الفصل الأول تحت عنوان الغناء في السودان تاريخ الغناء منذ أقدم العصور، مستشهداً بأكبر عدد من الشواهد والمراجع التاريخية والوثائق، بدءاً من عهود الحضارات السودانية الغابرة، مروراً بعهد الممالك المسيحية والسلطنات الإسلامية، حتي عهد الدولة المهدية، ليصل إلي فجر الأغنية الحديثة، وهي التسمية التي يطلقها علي ما يعرف في السودان بأغنية الحقيبة وأورد في هذا الجانب بحثاً شاملاً غير مسبوق عن بيئة الغناء في الفترة التي قادت إلي ظهور أغنية الحقيبة ، خصوصاً شعر المناحات والحماسة القبلية، مروراًَ بعهد أغنية الطنبور ، التي خرجت من إهابها أغنية الحقيبة . ثم يفرد باباً لـ ميلاد الأغنية الحديثة ، موثقاً لبدايات فن الحقيبة وما يعتريه من اضطراب في الروايات والأسانيد.
وفي الفصل الثاني ينبري المؤلف لدراسة تاريخ الموسيقي السودانية، خصوصاً محاولات تعريفها، مروراً بانعكاسات مشكلة الهوية التي يعانيها السودان علي توجهات وأفكار الموسيقيين والباحثين الموسيقيين في هذا الشأن ويحاول سرد خصائص الموسيقي الغنائية السودانية ومشكلاتها، مع التعرض لآراء ومقالات الكتاب والأكاديميين الغربيين الذين درسوا جوانب الموسيقي السودانية مثل العالم الألماني سايمون أرتور.
ويفرد باباً في هذا الفصل لأساتيذ عزف العود في السودان، يتضمن مقابلة نادرة مع العازفين برعي محمد دفع الله وبشير عباس وعلي مكي مع مسرد يرصد المقطوعات الموسيقية لكل منهم، مع تاريخ تسجيلها للإذاعة السودانية. ثم يتطرق إلي تاريخ آلة الكمان وسيرة أبرز عازفيها، خصوصاً البروفسور الماحي إسماعيل، والعازف الرائد السر عبد الله، والموسيقار علاء الدين حمزة، والعازفين علي ميرغني ومحمد عبد الله محمدية.
وينبري المؤلف لتدوين تاريخ آلتي الأكورديون والقيثارة في البلاد، ثم يعرج علي تاريخ آلة الطمبور الشبيهة بالربابة العربية بامتدادتها في الشمال والجنوب وجبال النوبة والنيل الأزرق، مع عرض واف لكتاب الأكاديمية البريطانية غويندولن بلملي الطمبور السوداني . ويورد أيضاً معلومات عن تاريخ الآلات النحاسية في البلاد، وبقية الآلات الشعبية الشائعة في السودان. ويكرس المؤلف فصلاً لتاريخ الموسيقي والغناء السودانيين في المتاحف والجامعات الغربية، وكيفية تصنيف الموسيقي السودانية في الغرب باعتبارها موسيقي عالمية .
تاريخ الإذاعة السودانية
في فصل آخر، يبحث المؤلف في تاريخ الإذاعة السودانية منذ التجارب اللاسلكية الأولي التي أجراها الاستعمار البريطاني علي متن باخرة علي مياه النيل، والبرقيات التي تبادلتها سلطات الدفاع والاستخبارات البريطانية في هذا الشأن، وبدايات البث الإذاعي، والشخصيات التي بدأت العمل والتقاليد الإذاعية في السودان، مع رصد محاولات تطوير طاقة البث، وتوسيع الاستوديوهات. ويورد مسرداً شائقاً بأسماء المديرين الذين تعاقبوا علي إدارة الإذاعة منذ عهد البريطاني فنش دوسون إلي عهد مديرها الحالي (2005)، مع السيرة التفصيلية الخاصة بالأستاذ علي محمد شمو وزير الإعلام السابق في عهدي الرئيسين جعفر نميري وعمر البشير، ويعدد الإنجازات التي حققها المدير السابق الدكتور صلاح الدين الفاضل للإذاعة والعاملين في أقسامها. ويتضمن الفصل قائمة بأسماء أهم المذيعين ومقدمي البرامج ومهندسي الصوت والمخرجين ومسؤولي المكتبة الصوتية.
ويعزز المؤلف هذا الفصل بباب يتناول فيه تاريخ صناعة الإنتاج الفني في السودان، بدءاً من إنتاج أسطوانات مرحلة حقيبة الفن في عشرينات القرن الـ 20، مروراً بتجربة محمد حسن سعد وولده منصور (منصفون) وحسن مصطفي صالح (سودانفون)، انتهاء بتجارب الإنتاج التي نجمت عن سياسة التحرير الاقتصادي ويلحق بهذا الفصل معلومات طريفة عن إلصاق أسماء المدن والمناطق بأسماء المطربين.
وقبل أن يختم هذا الجانب يورد وقائع تاريخية مهمة من أضابير دفاتر مكتبة البازار التي حصل عليها من صاحبها المرحوم ديميتري البازار قلب وفاته في عام 1989. ويرفقها بصور نادرة لأغلفة أهم الأسطوانات السودانية التي صدرت خارج البلاد، خصوصاً الأسطوانات الأربع التي أنتجها المطربون عبد العزيز داود وعبد الكريم الكابلي وأحمد المصطفي والموسيقار برعي محمد دفع الله في واشنطن سنة 1975، إلي جانب الأسطوانات السودانية التي صدرت في لندن خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي.
سير شعراء ومطربي الحقيبة
ويكرس المؤلف الفصل الرابع من كتابه لتدوين تراجم رواد الغناء السوداني الحديث الذي يسميه العامة الحقيبة . وهي سير خالية من الانطباعية، إذ عكف المؤلف علي كتابتها بعد بحث وتقص ومقابلات ورجوع إلي أمهات كتب الدراسات السودانية والمجلات السودانية.
وتشمل التراجم: الشاعر بابكر العبادي، عمر البنا، سيد عبد العزيز، صالح عبد السيد أبو صلاح، عبد الرحمن الريح، خليل فرح، محمد ود الرضي، عبد المطلب أحمد حدباي، أحمد حسين العمرابي، عبيد عبد الرحمن، محمد علي عبد الله (الأمي)، عميد الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور، المطرب علي الشايقي، الفنان الأمين برهان، عبد الكريم عبد الله مختار الشهير بكرومة، إبراهيم عبد الجليل، عبد الله الماحي، عوض وإبراهيم شمبات، محمد ديميتري البازار.
وتتضمن ترجمة العبادي ملفاً خاصاً بإنتاجه المسرحي، مع نصوص عدد من القصائد التي لم ينشرها العبادي. ويتطرق في ترجمته للشاعر سيد عبد العزيز إلي جهده في التأليف المسرحي. وهي جوانب تكاد تكون منسية بسبب افتقار مكتبة الدراسات السودانية إلي مثل هذه السير التي تستند إلي وقائع وأسانيد ومقابلات صحافية وإذاعية.
ويختم المؤلف الجزء الأول من كتابه الموسوعي بمسرد يمثل تقويماً أو جدولاً زمنياً لأهم الأحداث التي شهدتها الساحة الفنية في السودان، منذ دخول آلات الموسيقي السردارية إلي البلاد في عام 1884، وتكوين موسيقي الأورط العسكرية في 1888. ويشمل المسرد تدوين تاريخ ميلاد ووفاة معظم أقطاب الساحة الفنية والشعرية الغنائية السودانية من نهاية القرن التاسع عشر حتي وفاة الفريق إبراهيم أحمد عبد الكريم والمطربين محمد حسنين وعبد المنعم حسيب في 2002 …
أعتقد جازماً بأن الكتاب يعتبر مراجعاً توثيقا شاملاً لكافة المهتمين بشأن الغنائي السوداني وكذلك يغطي مساحة من ذلك النقص الثقافي في المكتبة السودانية ويعتبر عوناً لطلاب الماجستير والدراسات العليا …

توثيقي للفن السوداني
سليمان عبد الله حمد ـ الرياض
[email]ab_fatima2011@hotmail.com[/email]